موريتانيا .. و الفرص الضائعة !!

هل كُتِب على هذا البلد أن يظل على الدوام على الهامش فى كل شيء؟ طَموحٌ هو من، بالبحث، يدِّعى تغطية المسار التاريخي لأي شعب أو بلد منذ بزوغ فجره إلى اللحظة الآنية. إن كان لا بد من بداية بالنسبة إلى موريتانيا فلتكن من رأس القرن الماضي مع مجيء الاستعمار الفرنسي لهذه الربوع التى كانت تسمى بلاد شنقيط و أرض البظان. و إن كان القوم الذين تطلق عليهم هذه الصفة لايقتصرون على المجال الذى وقع تحت الاحتلال؛ صفة ستَنحِتُ منها القوى الغازية فى ما بعدُ مصطلح “تراب البظان” قبل أن تحوله إلى تسمية موريتانيا التى أصبحت معروفة بها رسميا. بلاد شنقيط هذه، أو تراب البظان، لم تكن معزولة عن محيطها المغاربي؛ بل كانت لها صلات متنوعة مع هذا الفضاء . لقد كان أول ماقام به الاحتلال الفرنسي بعد سيطرته كان قطع هذه الصلات من جذورها و ربط البلاد بمستعمراته الأفريقية من خلال جعل مركز إدارتها من مدينة سين لويس السنغالية. و كانت هذه أول فرصة تضيع للبلاد حيث كان من الممكن، منطقيا، فى حال عدم حدوث تلك القطيعة الصارمة، أن ينالها التطور الذى وصلت إليه البلاد المغاربية. أو على الأقل أن تقترب منه، حتى فى ظل الاحتلال. لكن الذى حدث هو أن الاستعمار لم يترك، بطبيعة الحال، ذلك المسار على حاله و أحدث الفوضى بانتزاع السلطة من القوى التقليدية، الإمارات و العشائر، و لم يجعل مكانها نظاما ذا قيمة أو نواة سلطة مركزية. كذلك لم يطور بِنية تحتية فى البلاد و لم يهتمَّ حتى بنشر القيم التى يدَّعى أنه جاء بها. لم يكترث بواقع العبودية الذي كان واقعا معيشا و يعالجه علة ضوء قيمه، كما لم يعمم التعليم الذي كان امتيازا لفئات اجتماعية ؛بل لم يُقِم من التعليم إلا بالقدر الذى يخلق به فئة مدجنة تحمل قيمه، و بلغته. لقد اكتفى من كل ذلك بما يخدم سيطرته هو و تسيير شؤون سلطته، لا أكثر .. الفرصة الضائعة الثانية هي عندما حاول بناء كيان “من لا شيء”. هذه المرة أظهر جدية لافتة، “جدية المُودَّع الصادق ” عن طريق سحب جنوده و تسليم السلطة بكل سخاء (إلا “القليل” منها فى ما له صلة بالمجال الثقافي و الاقتصادي) لأبناء البلد الذين كان أعَدّّ بعضا منهم سلفا و علَّمهم فى جامعاته … فكانت فترة حكم الرئيس الأسبق، المختار واد داداه، … ثم كانت كارثة الإنقلابات العسكرية التى تلته لكنها، رغم التغييرات فى شكل السلطة التى تحدث بعد كل انقلاب، سارت كلها بانضباط على النهج و الفلسفة التى وضع الاستعمار فى أيام سيطرته الأولى …
لا مناص اليوم، بعد أكثر من ستين سنة من البؤس و التخلف و تقهقر البلاد بدل تقدمها كسائر البلدان، من الإقرار بأن فرصة أخرى – وأية فرصة ! – قد أُهدِرت. لكن المحزن و المخيف فى آن هو أن الأفق مسدود و الخيارات محدودة … إلا بالعودة إلى جذور المأساة و هي محنة الاستعمار الفرنسي العقيم و القاتل لآمال البناء و الاتحاد، حيث اعتبر بلدنا سَقْطَ متاع و شعبَه (و نُخبه) صالحا فقط لتشريع هيمنته الثقافية و اللغوية و نهبه لخيراتنا، مقابل استقلال مزيف و ديموقراطية سطحية و مغشوشة.
شرط النهايات تصحيح البدايات كما هو معروف. يجب قطع حبل المشيمة نهائيا مع المستعمر الفرنسي القديم الجديد، و مع ثقافته و لغته، و الاعتماد على الله و النفس و القوى الدولية التي لا تتعامل بمنطق الدونية و الاستعمار مع الشعوب، و لا بد من فرض الاحترام و الندية مع أي طرف؛ فموريتانيا ليست بلدا معدما؛ بل عندها من المقدرات ما يُغرى الأطراف الدولية الأخرى و يعزز مركز البلد و استقلال قراره …فلا معنى و لا مبرر أن تظل بلادنا تكابد الهيمنة إلى ما لا نهاية فيما الشعوب من حولها قد تحررت وتطورت. أما الشرط الاول الذى لا أمل فى النهوض المنشود من دون تحققه هو استعادة البلاد لهويتها العربية التى حُرِمت منها لأكثر من قرن من الزمن، و التى كانت الحرب عليها هي السبب الرئيس فى التخلف المريع لهذا البلد.
عندها سيتسنى لهذه البلاد أن تلعب دورا فى محيطها الطبيعي المغاربي و تستفيد منه من خلال التبادل التجاري و المجتمعي الذى كان سائدا قبل الاستعمار، و فى هذا الوقت من التكامل الاقتصادي مع الأقطار المغاربية و العربية. لن يتم ذلك بطبيعة الحال إلا من خلال تغيير عميق يقوم به نظام وطني ذو رؤية واضحة و طموحة للخروج من دوامة التبعية و قصر النظر و لانتهاز الفرص التاريخية بدل تركها تضيع كل مرة .. نريد التعاون مع الجميع، بمن فيهم فرنسا، لكن على أساس من الندية و الاحترام المتبادل. كذلك نعتز ببُعدنا الأفريقي و نريد تعميق التعاون مع الدول الافريقية جنوب الصحراء، فى إطار استقلال حقيقي و تصميم تام على السير إلى الامام.
مجلة الدرب/61

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى