محاولة لفهم ما قد يكون بعد زوال الأمم المتحدة

محمد ولد الراظي

حرب النظام العالمي الجديد تدخل قريبا أسبوعها الخامس وتعطي ملامح مستقبل يختلف تماما عما كان عليه العالم قبل فجر الرابع والعشرين فبراير.
استنفدت أمريكا مخزون العقوبات فازدادت ضراوة الحرب وضاقت الأرض بأهلها وانتشر اللاجئون البيض في أركان أوروبا يحملون معهم كل متناقضات القارة العجوز وكل أسباب التوترات والشحناء ذات الطابع الإتني والديني والإجتماعي مما قد يخل بالتركيبة السكانية للكثير من دول أوروبا …….إنها الحرب الأخطر وبذور عدم الإستقرار الدائم.
تخويف أمريكا لحليفاتها الدرداء في أوروبا من الغول الروسي أنتج سلات من العقوبات الصارمة والشاملة ولا شك أن هذا التهويل وحد حلفاء الأطلسي وهو أمر متوقع من كل هزة غير مسبوقة وغير متوقعة ولكن ما إن يتم امتصاص الهزة الأولي حتي يعود التفكير لواقعيته.
أحدث هذا التخويف أيضا تحركات للحلف الأطلسي في اتجاهات عدة…..لكن ما الذي يمكن لهذا الحلف أن يفعل غير الذي فعل ؟! إذ الإنتشار العسكري ليس بالجديد والحلف تمدد بهدوء منذ سقوط الجدار وزيادة الوحدات القتالية علي اليابسة ليست أمرا مهما في هذا العصر بحكم الأساطيل المنتشرة في كل البحار المحيطة بمسرح العمليات…وبحكم تطور وسائل الإنتشار عند الحاجة.
أما العقوبات فليست جديدة علي روسيا إذ خبرها الروس أيام الإتحاد السوفياتي وقد خبروا أيضا الإنفتاح الغربي بلا حدود عليها أيام بوريس يلتسين الإبن المدلل حين أمسك الغرب بكل شيئ في هذا البلد الكبير إلا الزر النووي الذي لم يكن يلتسين وحده من يمسك به وكانت النتيجة أن تعطلت روسيا اقتصاديا وخارت سياسيا وانحسرت في الميدان الجيوسياسي بزحف الحلف الأطلسي نحوها من الشمال والجنوب والغرب ولم تنل في المقابل إلا شهادات حسن سيرة وسلوك من واشنطن ولندن وباريس!!!!! ثم إن ما يميز عقوبات اليوم أن من يفرضها قد يكون أكثر من يكتوي بنارها وقد بدأت بالفعل آثارها تململ الشارع الغربي علي ضفتي الأطلسي وقد تسقط حكومات ويفشل قادة في الإحتفاظ بالسلطة …..مظاهرات اسبانيا وفرنسا مثالا لا حصرا.
كانت أمريكا منذ أعوام تجهز الجيش الأوكراني وتدرب آلافا من نخبته وتوطن أبحاثها البيولوجية والجرثومية والفيروسية وتبني قواعدها تحت جنح الظلام في خاصرة روسيا الجنوبية الغربية ولم يخطر علي بال أحدهم أن لصبر الدب حدودا حتي كان الرابع والعشرين فبراير……بداية تشكل عالم جديد.
من نتائج الأسابيع الأربعة أن أمريكا تقود لأول مرة معركة نفوذ بصوت مبحوح لا تكاد تسمعه إلا للخلان الموثوقين…. نأت المكسيك الجار الجنوبي بنفسها وكذا فعلت البرازيل ثاني أكبر دولة غي أمريكا من حيث عدد السكان وأحد أكثر الإقتصادات العالمية حيوية وانتفضت إفريقيا بما يربو علي ثلاث وعشرين بلدا ولم تفلح القوي الإستعمارية الأوروبية في تفعيل إرثها الثقافي والسياسي في هذه البلدان لنصرة العم سام وبح الصوت الأمريكي وهو يخاطب الصين وتواري أصدقاء أمريكا في كل أنحاء العالم……أما مجموعة البريكس فقد مضت في طريقها الهادئ منذ بعض الوقت…
أما تركيا فقد أدركت أن لا مكان لها في نادي أوروبا المسيحي الذي سارع بلمح البصر في احتضان أوكرانيا في حين أغلق الأبواب أمامها منذ عقود طويلة ولم يشفع لها أنها صاحبة أكبر جيش في الحلف وتتحكم في مضائق وعقد استراتيجية لا نظير لها.
ساعد في كسر هيبة أمريكا اليوم تتالي هزائم جندها في العراق المحاصر لعقود و خروجها المذل من كابول حين كانت طائراتها العسكرية تلوذ بالفرار لا تلوي علي شيئ وعملاؤها يتسلقون بحبل نجاة من سراب تماما كما كان خروجهم من سايكْون في فيتنام في أواخر الألفية الماضية ولم يبق لها من مستمع ذي شأن إلا في أوروبا..
حلفاء أمريكا في أوروبا الغربية ينقسمون إلي قسمين أولهما وأهمهما علي الإطلاق ألمانيا وبعض الدول السائرة في فلكها كدول الشمال وهذا الحليف أدرد وتسليحه إشارة في منتهي الخطورة للبقية من أوروبا وخاصة فرنسا..
ألمانيا والسائرون في فلكها حلف متخم بالثراء له مقومات ذاتية ثابتة وله قدرة تنافسية قوية بذاته وقاعدة صناعية وعلمية وتجارية يحسد عليها…..ولكن هذا الحلف غير مأمون وليس له نفوذ خارج أرضه يحتاج لسند فيه ولا يكن ودا كبيرا لأمريكا أصلا ويدرك أن حقائق الجغرافيا أقوي من تقلبات السياسة والأحلاف وينظر إلي روسيا من زاوية المصلحة التجارية والإقتصادية البحتة ولذلك قاوم كل محاولات أمريكا تعطيل مشروع خط الغاز ومن غير المنتظر أن يلغي هذا المشروع مطلقا ويعي أن الموقف الأمريكي موجه أساسا للوقوف دون تشابك المصالح مع روسيا…..وكانت أمريكا وقطر قد عملتا من قبل علي فك الإرتباط الألماني بمصادر الطاقة الروسية من خلال مشروع مد خط الغاز القطري عبر سوريا إلي أوربا…رفض بشار الأسد القبول بالمشروع – وقد يكون ذلك مراعاة لمصالح حليفه الروسي – وكان رفضه السبب الأبرز للحرب التي شنت علي سوريا وقد يكون هو نفسه السبب الذي دفع روسيا لنجدة الشام……لغة المصالح هي وحدها التي تفهم الدول ذات السيادة.
أما القسم الثاني من حلفاء أمريكا في غرب أوروبا فتقوده فرنسا التي تملك جيشا قويا وقوة نووية مستقلة ومازال بها نفس ديقولي قوي لا يفوت فرصة حتي يخبر عن نفسه ولكن قوتها الإقتصادية والسياسية بدأت تتآكل بتسارع كبير بفعل الثورة المتنامية ضدها في عالمها الفرانكوفوني والإفريقي علي وجه الخصوص…فرنسا اليوم تواجه روسيا في إفريقيا الغربية والوسطى….

كيف سيكون العالم ما بعد حرب أوكرانيا ؟

منذ مطلع القرن العشرين عادة ما تؤدي الحروب الكبيرة في أوربا إلي تغير جوهري في النظام الدولي.
فبعد الحرب الأوروبية الأولي عام 1914 أنشأ المنتصرون ما عُرف بعصبة الأمم بموجب ميثاق فرساي واتفقوا علي أن تكون جنيف الأوروبية مقرا لها.
كان الهدف المعلن هو المحافظة علي الأمن في أوربا حصرا وقد اشتغل الرئيس الأمريكي ولسن كثيرا لكي تري هذه المنظمة النور وراهن ليجعل منها منصة أمريكية هناك لولا أن الكونقرس رفض انضمام أمريكا لها…..
كان المنتصرون في هذه الحرب في حالة انسجام تام الحلفاء في أوربا من جهة وأمريكا التي لحقت بالمجهود الحربي في سنة المواجهات الأخيرة من جهة أخري..روسيا خرجت من الحرب في سنتها الأخيرة بفعل الثورة البلشفية ولكنها انضمت لاحقا للعصبة.
لم تنجح عصبة الأمم في مهمتها إلا حين كانت الخصومات بين الصغار ومن أكثر الأوصاف تعبيرا عن حالها تلك ما قاله بنيتو موسليني من أنها “فعالة فقط حين تغرد العصافير ولا جدوي لها مطلقا حين تهاجم النسور”….تماما كما الأمم المتحدة اليوم
أما في الحرب الثانية فكان المنتصرون في غير انسجام حيث لم يتفقوا إلا في مواجهة هتلر واختلفون في كل شيئ فكان لا بد لأية منظمة بديلة لعصبة الأمم أن تراعي الواقع الجديد حيث أمريكا المنتصرة بجيشها والقوية باقتصادها الذي لم تمسسه الحرب بسوء وروسيا المنتصرة بجيشها والحاملة لمشروع سياسي أممي تراه أمريكا وحليفاتها الدرداء خطرا وجوديا قد يفوق كثيرا خطر النازية…..فكانت الأمم المتحدة واتفق الجميع علي أن تكون نيويورك الأمريكية مقرا لها وكان مجلس الأمس وكان حق النقض الذي هو في حقيقته يعطي لصاحبه القدرة علي تعطيل إرادة أي كان ولو كان العالم أجمع…وكثيرا ما كان هذا الحق فرصة ذهبية لتبادل المنافع و”الإكراميات” بين الخمسة…
الحرب اليوم أخطر بكثير من الحرب الثانية لأنها تقع في زمن تملك فيه دول عديدة القدرة علي إهلاك العالم وتملك أذرعا طويلة بما فيه الكفاية لتوزيع الدمار علي أركان الدنيا الأربعة…..وكما كان فشل عصبة الأمم في منع حرب ثانية في أوروبا مبررا لميلاد منظمة مغايرة سيكون العالم علي موعد مع نظام سياسي وأمني دولي جديد بديلا عن الأمم المتحدة ومتجاوزا لأذرعها الكسيحة ومراعيا لمصالح عالم متعدد الأقطاب الكل يهاب الكل ويخشي بأسه وبطشه ولن تكون أمريكا قطعا من رواده الأوائل….
قد يكون النظام العالمي الجديد نظام كتل بدل أمم ويصبح الأمن العالمي من صلاحيات منظمة تجمع التكتلات الأكثر تجانسا في ما بينها كالإتحاد الأوروبي والإتحاد الإفريقي وتكتل البريكس ( روسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا) وغيره من التكتلات الآخذة في الإنتشار وغيرهما في وضع لبنات المنظومة العالمية الجديدة ولعب أدوار كبيرة في تفعيلها…..وقد يكون شيئا آخر أو أشياء أخر إلا أنه لن يكون كما كان قبل الرابع والعشرين من فبراير…….ويبقي السؤال الأهم متي سيفهم العرب والمسلمون أن الوقت قد حان ليأخذوا مكانا لهم بين الأمم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى