قراءة في ديوان البظان (5)

بقلم الإستاذ/محمدٌ ولد إشدو

“كَتَفُ”: “يا مولانا عِينْ الرسول”!
يعتبر “كَتَفُ” في قمة الأشوار “الزُّمْنِيه” المكونة لأزوان البظان، وذلك لصدارته بوصفه أحد أشوار “كر” الجانبه الكحله، ولكونه أيضا أحد إبداعات واحد من أكبر جهابذة وعباقرة الفن والأدب في أرض البظان هو سَدُّومْ (آبَّ اݘَّيّْ) ولد انجَرْتُو الحساني (نسبة إلى لِحْسَاسْنَه) الذي هو – بدون منازع- أحد أساطين مدرسة الحوظ الرائدة الثلاث (اعْلِي انّْبَيْطْ ولد حَيْبَللَّ، سَدُّومْ ولد انجَرْتُو، سِيدْ أَحْمَدْ ولد آوْلِيلْ، رحمهم الله) ومؤسس مدرسة تگانت العتيدة أيضا!
ولـ”كَتَفُ” خاصية أخرى يشترك فيها مع أشوار زُمْنِيَّةٍ أخرى تحدثنا عن بعضها في حديثنا عن الكرس؛ وهي أنه “يُشَوْهَد” بالگفان وباطلع!
وتختلف وتتضارب الروايات الشفهية والأساطير المروية حول نشأة كَتَفُ كغيره من درر أزوان البظان! ولكن لا يعتريها أدنى شك في ذكر الممدوح به الذي هو الأمير الرسول ولد اعْلِي امْبُگَّه بن اسويد بن امحمد بن خونا.
ومن أبرز تلك الروايات أن هذا الشور ولد صدفة في معركة حامية الوطيس وغير متكافئة خاضها الأمير المرابطي ضد فرسان قبيلة غزت حيه! ولما اشتد القتال بينه وبين عدوه، رأى الفنان والأديب العبقري أن للفن رسالة أخرى ودورا معنويا لا يقل فتكا عن السلاح، فأخذ يعزف الشور ويتغنى بشاهده ويبتهل إلى الله، ويذكر فضل ونبل وكرم وشجاعة ممدوحه الذي انتصر في النهاية على عدوه بفضل شجاعته والمدد المعنوي الذي قدمه له سدوم! وهناك حكاية أخرى تقول: إن سدوم أنشا الشور وهو في الأَسْرِ حين طلب منه مختطفوه – شرطا لفك أسره- أن يهجو الرسول ابن اعلي امبگه؛ فطفق يمدحه قائلا:

يَا حُجَّاجْ الْبَيْتْ الْمَقْدِسْ ** يَا رَبّْ الفَاعِلْ والْمَفْعُولْ
لَا تَجْعَل لِحْلُوگْ الْيُبِّسْ ** يِبْتَلُّ مِنْ خَيْمِةْ لِبْلُــــــولْ

ولد اعْلِي امْبگَّه مَا تَسْوَاهْ ** الاَنظَارْ، أُلَا تَسْوَ بَبَـــــاهْ
نَعْرَفْ نَوْبَه صَيَّفْتْ امْعَاهْ ** وَگْتِنْ خَانْ إعِيشْ الْبَزُّولْ
نَگَّرْنِي فِاخْيَارْ احْلَيَاهْ ** والْحَمْ يَابِسْ وَاَوْخَرْ مَبْلُولْ

خَلِّيلِ فَارِسْ عَلْبَانِ ** كَبّارْ امْسَانِينْ اغْنَـــــــانَ
عَطَّايْ أَشْعَارْ الْهَيْدَانَ ** فِي الصَّيْفْ إِلَى حَنَّنْ فِطُّولْ
أَلَّا هُوَّ يَنْحَرْ وَانَ ** انسَيَّرْ وانشّطَّرْ وانگُولْ:
“يا مولانا عِينْ الرسول”!
وأيا كان مدى صحة الروايتين، وإضافة إلى ما اشتملتا عليه من قيم الوفاء والشهامة، ومن صفات العبقرية والإبداع، فإنه يجب التنبيه من خلال النص على مسائل جوهرية:
المسألة الأولى: عبقرية وسعة ثقافة واطلاع سدوم الذي يتوسل ويبتهل إلى الله بجاه حجاج بيت المقدس النادر جدا ذكره وذكرهم – إن وجدوا- في أدب البظان، حتى في زمننا هذا! والذي يعبر كذلك عن عظمة الله وقدرته المطلقة بـ”رب الفاعل والمفعول” وهي صيغة نحوية غير متداولة في غير أوساط المعرفة! وما بأيدينا من روايات عن نشأة هذا الرجل العبقري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في أرض البظان، لا يوحي بدليل على تلقيه لأي نوع من التعليم! وكنت قد نوهت بهذه الميزة عند سدوم في عنوان عقدته في “رحلة الشتاء” للقاء افتراضي جمعني به في بو امديد نهاية سنة 1998!
المسألة الثانية: مدى صعوبة وشحة وسائل العيش في تگانت خلال هذه الفترة؛ وخاصة خلال الصيف الذي تندر فيه عناصر العيش البدوي الأساسية (اللبن واللحم ومشتقاتهما) والتي جسد جودَ وكرم وإيثار الممدوح توفيرُها للفنان في تلك الظروف! اللهم إلا إذا كان هذا النص قد قيل في فترة حصار إدوعيش من طرف بني حسان عند احنيكات بغداد، الذي أكلت فيه الإبل “شملتها” كما يقول بعض! وهي فترة حرب وحصار ومجاعة!
تضاف إلى ذلك مسألة ثالثة في غاية الأهمية؛ ألا وهي ضرورة غربلة النص الشفهي والحرص على تمحيصه حتى لا تخرجه التشوهات والشوائب التي تعلق به خلال التداول عن سياقه أو تضيف له ما ليس منه أو ما لا معنى له! ومن أمثلة ذلك: أن طلعة سدوم التي تبدأ بـ”ولد اعْلِي امْبُگَّه مَا تَسْوَاهْ” يروى شطرها قبل الأخير في كثير من المراجع كالآتي: “نَگَّرْنِي فِاخْيَارْ اخْلَيَاهْ”! (بالخاء) وقد حيرتني هذه الكلمة التي لم يقنعني أي من المعاني المعطاة لها! وبعد بحث وجدتها على حقيقتها لدى حفيدة سدوم، الفنانة الكبيرة سكتو بنت همد فال مد الله في عمرها. وهي: “نَگَّرْنِي فِاخْيَارْ احْلَيَاهْ” أي أحلى ما عنده! فنطقها بعض خاء بدل الحاء، أو كتبها بعضهم كما هي ولكن دنسا عارضا فوق الحاء حولها خاء! مثال آخر: الشطر الثاني من الطلعة الثانية يروونه كالآتي: “كَبّارْ امْسَانِينْ أَقْلانَا”! وهذا خطأ فادح! والصواب: “كَبّارْ امْسَانِينْ اغْنَانَا”!
وأختم هذه الملاحظة برأي شخصي حول آخر شطر من هذا الشاهد وهو: “انسَيَّرْ وانشّطَّرْ وانكُولْ”! فالرواة يفسرون الكلمة الأخيرة بأنها مضارع من فعل “أَكَلَ” مع ضمير المتكلم! أما أنا فأعتقد أن فصاحتها “وانگُولْ” أي أنها مضارع من فعل “قال” مع ضمير المتكلم! فالكتابة واحدة تقريبا. والمعنى مختلف تماما! والمعنى الأخير أكثر وجاهة في حق سدوم من المعنى الأول!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى