تدوير بطانة السلطان منزع للانحراف

مع أن مفردة البطانة في اللغة حسب ما جاء في لسان العرب هي : ” ما بطَنَ من الثوب وكان من شأْن الناس إخْفاؤه والظهارة ما ظَهَرَ وكان من شأْن الناس إبداؤه ” ، إلا أنها في الاصطلاح تأتي بهذا المعنى الخطيرالذي ورد في فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني :” البطانة الدخلاء ، جمع دخيل ، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته ، ويفضي إليه بسره ،

ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته ، ويعمل بمقتضاه ” .
وقد حذر القرآن الكريم من بطانة السوء قال تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) .
وقد تناولت الأحاديث النبوية الشريفة أثر بطانة الخير وبطانة الشر على الحاكم : فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ” ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، فالمعصوم من عصم الله تعالى. وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي ” وقال : إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه ، واذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء ، إن نسي لم يذكره ، وإن ذكر لم يعنه .
أما في الأثر فإن الخليفة عمر بن عبد العزيز، قد اتخذ أحد العلماء مستشاراً ، وقال له: ” راقبني فإذا رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي وهزني هزاً شديداً ، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنك ستموت ” .
ومرة كان الإمام الحسن البصري عند والي البصرة وجاء للوالي توجيه يغضب الله عز وجل ، فإن نفذه أغضب الله ، وإن لم ينفذه أغضب يزيد ، وربما عزله فقال للإمام ماذا أفعل؟ قال له إمام التابعين: اعلم أن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله .
وكتب احد الصالحين الى أحد الأمراء: وشاور في أمرك الذين يخافون الله تعالى، واحذر بطانة السوء ، فإنهم إنما يريدون دراهمك ويقربون من النار لحمك ودمك .
ويقول الطهطاوى في كتابه مناهج الألباب : ” كانت حكماء مصر تذكر الملوك دائما بالحقوق والواجبات وتحثهم على التمسك بالفضائل الملوكية ، وتلعن من يصرفهم عنها من بطانة السوء وأهل النفاق ، وكانت الملوك في تلك الأوقات يشتغلون بمطالعة الحكم والآداب والمواعظ والتواريخ ، وكل ما يرشد إلى العدل والاستقامة ” .
وهنا في موريتانيا يتحدث التاريخ عن اختيار الأمراء في هذا البلد لبطانة أهل العلم والورع والجرأة ، فقد قام هؤلاء العلماء المختارون بتذكير الأمراء بالحقوق والواجبات والحث على التمسك بالفضائل على أحسن وجه ، فكانوا بطانة خير تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، حتى وجدنا أن بعض علمائنا الأجلاء في تلك الفترة قد أصدروا أحكاما قضائية وفتاوى شرعية ضد الأمراء الذين اتخذوهم بطانة ، وجادلوهم في جميع الأمور، بما في ذلك أحوالهم الشخصية والسياسة وأحوال الرعية .
ويفهم من هذا ، أن نوعية البطانة قد تعتمد على ما يقرره ويختاره الحاكم لأن ” الرعية على قلب الأمير” ، ومع ذلك يجب على هؤلاء جميعا توخي الحذر الشديد من بطانة السوء ، التي علمنا الحديث النبوي الشريف أن من وُقي شرها فقد وُقي .
ومع أن بطانة السوء تعمل باستمرارعلى تضييع حقوق الرعية ، فإنها قد تساهم أكثر من ذلك في صناعة الحاكم المستبد عن طريق تعظيم وتمجيد ما يقوم به من أفعال أو أقوال مهما كانت صغيرة ، وتصوره وكأنه الملهم ، وأحيانا تتخطى الحدود بخيال مريض ، فتصف الحاكم بصفات تصل به إلى حد التأليه ، ويخبرنا التاريخ عن الكثير من هذه الحالات ، حيث يقول الشاعر ابن هانيء في ملك مصر المعز لدين الله العبيدي الفاطمي :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار .. فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنمــا أنت النبي محــمــد .. وكأنما أنصارك الأنصار.
وهذا المنزع خطيرجدا ويعمل عمله الٱن في جميع مفاصل الدولة الموريتانية ويؤدي إلى إخراج المجتمع من مساره الديمقراطي ، سيما أن قيادات الدولة الموريتانية الحديثة طفقت تحيط نفسها بحاشية جل أفرادها من بطانة المزاج ” بطانة سوء “، التي لا تسعى في خدمة الوطن وتعيث في الارض فسادا ، وتقطع ارزاق المواطنين وتقف في صف الافرنكفونيين الذين تمكنوا في هذا البلد من عودة روح الاستعمار من خلال فرنسة التعليم والقطيعة التامة بين الطفل ولغته الام لغة القرٱن الكريم والشريعة الاسلامية الخالدة . ومن خلال هذا النهج المنحرف تم استبعاد بطانة “أهل الخبرة ” البطانة الصالحة التي تواجه الحاكم بأخطائه ، ولا تجامله في الحق ، خلافا لأفراد بطانة السوء الذين ينظرون في مصالحهم الخاصة فقط ، ويعينون على الخطأ ولا يرشدون إلى الصواب ،حتى ولو تنوعت أهدافهم السيئة ، ذلك أن من بينهم من يريد أن يقوى نفوذه ويكون هو صاحب الأمر والنهي حتى يصبح هذا المسؤول الذي يعمل تحت امرته لا يعرف غيره ، ومنهم من يحاول استغلال قربه من الحاكم فيحجب الناس عنه ، فتضيع حقوق الرعية ، وخصوصا أصحاب الكفاءات ، ومنهم من يلهث وراءه لانتزاع توقيعاته بغية تحقيق مكاسب خاصة ورخيصة تغمط حقوق الآخرين ، وفي هذه الحالة تنعدم دولة القانون ، وتتلاشى كافة مؤسساتها ، ويتراكم نفوذ بطانة السوء ، وتقوى شوكتها ، حتى تصبح “حكومة خفية” وتكون الدولة هي الضحية.
ومع ذلك فإن هذه الظاهرة السيئة التي ابتليت بها بلادنا يجب علينا جميعا أن نحاربها بكل الوسائل وأن نجرمها كمسلك خطير من خلال المشرع الوطني وكافة جهود القوة الناعمة ، ونبين خطرها على المجتمع والدولة ، ونجعلها ضمن أولويات العلماء والكتاب والمثقفين ، وكافة عناصر المجتمع المدني ، بدلا من استخدام ” لعبة تبديل الكراسي ” التي تتبعها الانظمة المتعاقبة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى