اليوم Cfa وغدا….الفرانكوفونية

د. محمد ولد الراظي

أعلن رسميا عن وفاة افرنك التعاون المالي الإفريقي المعروف ب FCfa والذي كان أيام الاستعمار المباشر يدعي فرنك المستعمرات الفرنسية في افريقيا FCfa.
حافظوا له علي رمزه لما يعنيه من مجد استعماري وحرفوا دلالاته ليسهلوا تمريره في جو بدأت نسائمه تنفذ روح الثورة علي المحتل وأذنابه فيصبح عام 1958 افرنك التعاون المالي في افريقيا franc de la coopération financière en Afrique
هذه العملة الإستعمارية ليست فرنسية المنشأ كفكرة وإنما استنساخ أمين لتجربة عاشتها فرنسا المحتلة علي يد الغزاة الألمان في الحرب العالمية الثانية.
عام 1945 أدرك الجنرال دقول أن ما كان بالأمس سهلا عليه قد لا يعود في المستقبل القريب ممكنا بفعل انكسار هيبة الدولة الفرنسية ومعطيات نتائج الحرب العالمية الثانية ورياح التحرر التي تنفستها معظم الشعوب التي كانت تحت الإحتلال سواء في افريقيا أو آسيا أو حتي داخل أوروبا المنهكة………………………فأنشأ الفرنك cfa
سارع الجنرال المنهك والمنتصر بغيره الي استنساخ التجربة الألمانية مع بلاده لتطبيقها في علاقة فرنسا مع مستعمراتها الإفريقية علها تمكنها من استمرار سيطرتها علي تلك المستعمرات بعد أن تنال استقلالها الذي يبدو أنه أصبح حتميا.
لما دخل جنود الريخ الثالث باريس قررت ألمانيا وضع يدها علي المؤسسة المالية والنقدية وبالمناسبة فأول ما تمت السيطرة عليه كانت وزارة المالية والبنك المركزي بباريس.
تحكمت المانيا النازية في تحديد سعر الفرنك الفرنسي والزمت المنتجين الفرنسيين تصدير البضائع التي تحتاجها السوق الألمانية إلي المانيا حصريا.
يتم إيداع ثمن البضائع الفرنسية المصدرة الي ألمانيا في حساب يدعي حساب عمليات compte d’opérations من خلال تسجيل المبالغ لصالح فرنسا في دفتر العمليات.
لا يمكن لفرنسا أن تستورد بضاعة من أية جهة كانت إلا إذا كانت تلك البضاعة لا تنتج في ألمانيا كما أن فرنسا لا تسترجع من ثمن مبيعاتها لألمانيا إلا ما كان أجورا للعمال.
أما ما تبقي من الأموال الفرنسية فلا يمكن لأحد التصرف فيه إلا بموافقة من هتلر بعد استلامه طلبا بذلك وهو ما يعتبر أكثر المستحيلات استحالة.
استلهم الجنرال دقول ذاك النظام النقدي والمالي المحكم الذي سيطر به هتلر علي مقدرات فرنسا واعتمده ليواصل به استنزاف أفريقيا التي سيغادرها جنوده قريبا.
سيتم تقسيم الأقاليم الإفريقية المستعمرة إلي ثلاثة لكل منها بنك مركزي خاص:
-البنك المركزي لدول غرب افريقيا Bceao عام 1962
– البنك المركزي لدول وسط أفريقيا Beac عام 1958
-البنك المركزي لجزر القمر عام 1981.
لا تمتلك أي من هذه البنوك المركزية استقلالية القرار النقدي ولا المالي بحكم تشكيلة مجالس إداراتها والقوانين الضابطة لاتخاذ القرارات.
يتكون مجلس إدارة Bceao من 16 عضوا من بينهم فرنسيان ولا يصبح قرار المجلس نافذا إلا بالإجماع مما يعني أن ممثلي Banque de France الإثنين يملك كل واحد منهم قوة تعطيل أي قرار.
والحال ذاته بالنسبة للبنك المركزي لدول وسط أفريقيا حيث لا بد من إجماع أعضاء مجلس الإدارة البالغين 12 عضوا من بينهم فرنسيان.
أما بالنسبة للبنك المركزي لجزر القمر فلا يشترط الإجماع نظريا ولكنه لا بد من قبول ممثلي فرنسا لأي قرار يصدر من تلك المؤسسة حيث إن النصاب يكون بأغلبية 6 أعضاء من الثمانية الذين يشكلون مجلس الإدارة ومن ضمنهم أربعة فرنسيين.
ولا تصبح القرارات نافذة إلا بقبول 5 أعضاء من الحاضرين.
من الجدير بالذكر في هذا المضمار أن عملات أي من هذه الأقاليم النقدية لا تصرف في باقي الأقاليم إلا كما تصرف باقي العملات.
وكما كان الحال في فرنسا أيام الإحتلال الألماني فقد ظلت صادرات كل هذه المجموعات الثلاثة تودع بالكامل حصريا في بنك فرنسا Banque de france ويتم تسجيلها في حساب المعاملاتcompte d’opérations حتي العام 1973.
بدأ التململ داخل الدول الإفريقية يكبر والضجر يتنامي من الإستعمار المالي والنقدي الفرنسي وكانت فرنسا في جل تلك الحالات تتعامل بقسوة مع القادة الذين تجاسروا علي تحدي سطوتها الإستعمارية الجديدة.
و كانت تتعامل برفق مع الحكومات التي تتعرض لضغوط داخلية من قوي مناهضة للإستعمار المالي والنقدي كما كان الحال مع موريتانيا التي سمحت فرنسا بخروجها من منطقة الفرنكcfa مخافة سقوط النظام ووصول قوي ثورية أقرب إلي الجزائر تكون خطرا علي المشروع الفرنسي في المنطقة .
كان الحال مختلفا عندما جاء التحدي من رأس النظام في دول أخري.
عام 1962 أخرج Modibo Keita مالي من منطقة cfa ولم تتواني فرنسا عن معاقبته فأطاحت به عام 1968 وظل بالسجن حتي آخر أيامه في ظروف قاسية………. أعمي وحيدا لا يكلم أحدا.
أما في التوغو Togo
فقد صرح الرئيس Sylvanus Olympio في مايو 1960 أنه سيفعل ما في وسعه لتنفصل بلاده عن سلطة باريس.
عام 1963 قرر الرئيس الخروج من عملة cfa وإنشاء عملة خاصة ببلده مدعومة بالعملة الألمانية الدوتش مارك علما أنه مولود لما كانت بلاده تحت الاحتلال الألماني وكان شديد النفور من فرنسا.
دفع الرجل بسرعة ثمن خروجه علي بيت الطاعة الفرنسي فتحرك فوكار وأذرعه في افريقيا وقتلوا الرجل أياما قليلة بعد أن عبر عن تلك النية.
لما شعرت فرنسا بهذه الموجة الإحتجاجية التي طالت الزعامات الإفريقية والمجموعات السياسية اليسارية في غالبها بدأت تقدم جرعات مسكنة علها تمتص تلك الفورات المتلاحقة من الثورة علي المستعمر وأذنابه.
بعدما ظل ثمن صادرات الدول الإفريقية المنتمية لفضاء الفرنك النقدي الي الخارج يودع بالكامل في بنك فرنسا منذ الاستقلال قررت فرنسا وتحت الضغط المتنامي عام 1973 تخفيض تلك النسبة من 100% إلي 65% وتوطين ما تبقي في البنوك الإفريقية.
ولم تزد تلك الإجراءات الأفارقة إلا تصميما علي استعادة سيادتهم النقدية كاملة غير منقوصة ولم تنفع مع ذلك الجرعة المسكنة التي قدمتها فرنسا عام 2005 والقاضية بتخفيض تلك النسبة المنهوبة من الأموال الإفريقية التي يجب إيداعها في بنك فرنسا الي50% .
ولكن ظلت فرنسا هي من يتحكم في الكتلة النقدية لأن العملة تسك وتطبع وتسحب فيها ومن يتحكم في الكتلة النقدية يتحكم في المعروض وبالتالي في المسار النقدي والمالي بصفة عامة خاصة إذا كان هو من يدير البنوك المركزية في الفضاء النقدي لتلك العملة.
منذ أيام قليلة أعلن رسميا عن ميلاد العملة الإفريقية Eco التي ستحل محل Cfa التي ظلت العملة الضابطة للعمليات التجارية والإقتصادية لجل المستعمرات الفرنسية في أفريقيا.
ككل البدايات ستحصل بعض الإشكالات وخاصة ما يتعلق بالأمور النقدية والمالية وستنضاف لذلك بعض الإشكالات الثقافية وستغذيها منظمات دولية كالكومنولث ولفرانكوفونية ومن وراء ذلك عوالم أخري حلفاء في ظاهر الحال وغرماء في الخفاء ولكن الأهم أن قاطرة التحرر المالي والنقدي الإفريقي قد بدأت في رحلة لن يستطيع أحد وقفها وستكون لذلك انعكاسات قوية علي الفرانكفونية الذراع الثقافية والسياسية والإقتصادية الأخري للدولة الفرنسية بعد مغادرتها في ستينيات القرن الماضي.
عام 1970 تم الإعلان عن منظمة الفرانكوفونية في نيامي عاصمة النيجر وأعلن المجتمعون أن الهدف هو حماية وتطوير استعمال اللغة الفرنسية في العالم .
حصل ذلك في جو عالمي خاص تميز باستعادة بكين لمقعد الصين في الأمم المتحدة وهو ما تم عام 1971 وكانت الدول التي تبنت القرار منذ سنوات تدفع بأنه لا يمكن تجاهل شعب بهذا الحجم الكبير من أن يكون شريكا في صناعة القرار الدولي.
انتبهت فرنسا الي أن العالم يتجه لتبني معايير أخري غير التي فصلها منتصرو الحرب العالمية الثانية وأنها ستكون يوما ما بحاجة الي فضاء ثقافي يكون حاميا لمركز اللغة الفرسية في العالم وسياج من الدول تكون ناطقة باسمه لتواجه به كبار الأمم من حيث التأثير في القرارات سلما أو حربا.
تهدف فرنسا من خلال المنظمة الي تحقيق أهداف سياسية واقتصادية واستراتيجية حيث توجد لها قوات عسكرية في الكثير من هذه الدول مما يسهل عليها مواجهة الكبار وتثبيت نفوذها كقوة كونية فاعلة.
هذا الفضاء الثقافي يضم أكثر من 300 مليون إنسان أي نسبة أربعة في المائة من سكان العالم وقد يصبحون 600 مليون في العشرين أو الثلاثين سنة القادمة بحكم أن الأفارقة هم المكون الأساس لهذا الفضاء ومعلوم أن نسبة النمو الديمغرافي في القارة من أكبر النسب في العالم.
واجهت هذه المنظمة طموحات الأفارقة في كتابة لغاتهم بكثير من المراوغة والمسكنات من أجل امتصاص ذاك المد الجارف الذي بدأ من مؤتمر باماكو عام 1966 في عز الجفاء بين Modibo Keita وفرنسا.
وكان أعلام كبار من أمثال Amadou Hampâté Bâ الذي كان لسنين عديدة عضوا بالمجلس التنفيذي لليونسكو وصاحب الجملة الشهيرة: إن موت كل مسن في إفريقيا بمثابة مكتبة تحترق و Cheikh Anta Diop و Sambene Ousmane وغيرهم كثير قد نادي بتدريس اللغات الإفريقية والإبتعاد عن الهيمنة الثقافية الفرنسية.
في السنغال بلغ الصراع أوجه بين الرئيس سنقور و المدافعين عن الهوية الثقافية للسنغال فاعتقلت السلطات العالم الكبير ذائع الصيت الشيخ أنتا جوب وجمعا من أنصاره وما زادهم ذلك إلا إصرارا.
تحت الضغط المتنامي وافق الفرنسيون وأوعزوا للرئيس سنقور أن يبدأ بعملية امتصاص ممنهجة للنقمة الشعبية فقرر افتتاح أكثر من عشرة فصول لتدريس الولفية وفصل أو اثنين لتدريس السيرير بالحرف اللاتيني.
ولما أدرك أنه لم يعد قادرا علي خدمة المشروع الفرنسي في السنغال وأمام تنامي المعارضة القوية المطالبة بمزيد من السيادة الثقافية قرر الرحيل …..فرحل
أعلنت الفرانكفونية دعمها تدريس اللغات الإفريقية وتبنت اليونسكو بتوصية من الراعي الفرنسي في مقرها الباريسي وفرعها الإقليمي في مقره السنغالي ذاك المشروع ولكن لم تدرج الحرف العربي حتي كخيار من بين الخيارات رغم أن الكتابة بالحرف العربي لا تحتاج الي أي جهد إذ كانت تلك اللغات لقرون عديدة تكتب به ولأن منظمات كالمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم تعكف علي تطويره وتعبئ لذلك أموالا كثيرة وطواقم علمية وتربوية كفؤة.
كانت منظمة الفرانكوفونية وراعيها الفرنسي يسعون لتسكين ذاك الجموح الإفريقي نحو الإستقلال الثقافي فتتبي المبدأ لكنها لا تسعي كثيرا لوضع المشروع علي السكة مما أجهض كل المحاولات في ذاك السبيل.
ومن الأمثلة الحية علي ذلك أنه في الوقت الذي تعلن فيه الفرانكوفونية دعمها لمشروع كتابة اللغات الإفريقية كانت أذرع فرنسا المحلية تستميت في النضال بغية المزيد من التمكين للغة الفرنسية في دول القارة.
علي المستوي الإقتصادي تمثل هذه الكتلة -التي أعلن عنها أيضا في جو بدأت الدول الإفريقية بفك الارتباط مع الفرنك – ما يقدر ب%16 من الناتج العالمي الخام وتسجل مستوي نمو يقدر ب %7 كما أنها من أكثر المناطق غني بالثروات الطبيعية غير المستغلة سواء الثروات المتجددة أو غير المتجددة.
وستجني فرنسا منها فوائد اقتصادية جمة حيث إن الكثير من الدراسات تؤكد أن التبادل التجاري بين مجموعتين تتقاسمان اللغة يزيد بنسبة %65 عما عليه الحال بين مجموعتين لا تتقاسمان مشتركا لغويا.
واليوم وبعد طلاق الفرنك cfa ستعود الأموال الإفريقية المنهوبة الي أصحابها وستكون القارة قادرة علي الصمود في وجه الإغراءات والتهديدات الفرنسية مما سيفضي لا محالة إلي الابتعاد عن الهيمنة الثقافية الفرنسية.
وداعا لعملة ظلت ردحا طويلا من الزمن تمتص مقدرات شعوب إفريقية كبيرة وتصادر مستقبل أجيال بكاملها و تقتل فيها روح الأمل…..وكما انتفضت القارة ضد عملة المستعمر فستلحق الهزيمة بإذن الله بمشروعه الثقافي لنعلن في قادم الزمن القريب وداعا للفرانكوفونية وداعا غير مأسوف عليه.
الأفارقة قوم صبر أشداء و الشرف يعني لهم الشيئ الكثير والإفريقي مارد قوي ………فلما أشتد حصار العالم الظالم علي ليبيا وأدار الأخ ظهره لأخيه وتنكر الجميع لدولة كانت ذات يوم قبلة للكل كان الأفارقة أول من كسره وطار قادة أفارقة بطائراتهم الخاصة وحطوا بطرابلس المحاصرة.
د. محمد ولد الراظي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى