أوراق المغبون الأخيرة

عبيد ولد إميجن

بينما تقف دولٌ أفريقية وعربيـة عديـدة على اعتاب ”الثورة الصناعية الرابعة“ التي ستغير في الكثير من تفاصيـل حيــاة شعوبها، فمنذ سنوات باتت الحكومات رهينة التسـابق على عوائــد الذكاء الاصطناعي (IA) ونتيجـة لهذه التطورات غير المسبوقة اتجهت مكونات هذه الدول للتنافس على اختراعات تكنلوجيا النانو وهـو ما ينتج عنه تغييرا كبيرا في طبيعة العمل والحياة الانسانية من الألف إلى الياء، تشمــل هـذه المُتغيرات المؤثـرة تطويـر المنصات الرقميـة ومراكز البحوث التي جهزتها هذه الدول من أجل توجيه مهارات الأشخاص نحو الفـرص المتزايــدة للذكاء الصناعي (الحوسبة السحابية، الطباعـة ثلاثية الأبعاد3D، والربوتات) حيث يتوقع ان يساهم التفكيــر في هـذه الحلول الاقتصادية غير التقليـدية فـي رفع كفاءة القوى العاملة بنسبة 40% على المستوى العالمي بحلول عام 2035، ومع تعاظـم سيطـرة الابتكارات الرقمية والاستحواذ المتزايـد للذكاء الاصطناعي على مُيُول دول افريقية عديدة كالتوانسة، والغانيين والنيجريين أو الكينيين عموما، يشعــر الواحـد منا بأن الإنسان الموريتاني لا يزال بعيـدا بحيثُ يحـاول تجريب الانتقال بتدرُجٍ مـن الثورة الاقتصادية الثانية الى الثورة الثالثة حيث عصر التكنلوجيا والالكترونيات؛ تماما مثلما لا تدرك طائفـة واسعـة من قادة الرأي الوطني الفرص والمرتكزات التـي تقوم عليها هـذه الثـورة الجديـدة وأثارها على نمط تفكيـر المجتمعات المحلية والصور النمطية الصادرة عنها.

بغض النظـر عن المكان الذي يعيش فيـه الشباب الافـريقي فقـد سمحت هـذه المنصات بسرعـة أكبر من أي وقت مضى بالربط بين الاجيـال وخفـض المسافات بيـن مختلف الطبقات الاقتصاديـة، حيث اتجهت الشعوب الى دراسة وتصميـم الأجهزة والتنافس على تشغيلها وصيانتها ونقل تقنيتها وتسويقها حيث يأمل الجميـع فـي تضييق الفوارق والفجـوات الاجتماعية في المستقبل. موريتانيا يسابـق الشباب الزمن في مناح أخرى تتوقف على الانشغال بالجدالات الثقافية والأدبية والأصول الجينية للمكونات وتعميق الانقسام، ناهيـك عن أن صفوة المجتمع تظـل تراقب ولكنها لا تـدرك، تقرأ ولا تعـي، تتمنى ولا تخطط وفي الوقت الذي ينشغل فيه شباب العالم في رسم خوارزميات الذكاء الاصطناعي تجتهـد النخب النواكشوطيـة لاكتشاف اسم وصفة الشــاعر الذي تعود له أبيات جـرى تثبيتها على حائـط اسمنتي يعترض طريق الوفود الأجنبيـة المشاركــة في قمة التحالف الفرنسي مع دول الساحل!؟

لا يبدو أن الأقدار ستبتسم قريباً للموريتانيين حتى يحصُل التغيير الأنسبُ، مع أنه في المتناول متـى خلصت عزيمة الحكام و وجهت الارادة الى معرفة جوانب الاختلالات وادراك الكوابح الحقيقية لمن يود الإقلاع الحقيقي نحـو مسار تنموي شامـل يليــق بموريتانيا بدل ابقائها منكفئة على اقتصاد كلاسيكي يغلب عليه البعد السياسي و مهارات “الْمُتْبَلْتْكِينْ” التقليـديين اللذين هم فئـة من السياسيين تقول للموريتانيين ما لا تفعل، تجهل مجتمعها وتتغـذى عليه، تروض المبتكرين وتتماهـى مع قيـم الماضي، لقد أسس الجيل الهرم (المُخضرم) هـذا لوعي سياسي رتيب وجامد الى أبعد الحدود، مما حال دون الانتقال بالبلد الى المشاركـة السياسية والتمثيلية الكفيلة بإرساء نمط وتصورات تقرُ بتحولات المجتمع وتصاحبها بروح حريصـة على التقليل من الفـوارق الاجتماعية والاقتصاديــة بين مختلف المكونات والمناطق.

وهذا في تقديري، أحـد الأسباب الرئيسية لفشـل التجربة التنموية الموريتانية ومنع بلادنا من اللحاق بركب التقدم الانساني والحضاري، يرتبط بالانعكاسات المدمرة لتمادي “أبناء الوجهاء”، وميسوري الحال في الفوضى السياسية والفساد الاداري والمالي على حساب مصالـح الفئات الفقيرة والمحرومة من المجتمع، ولقد ارهقت هـذه التجربـة المجتمع وهددت عمقه ونسيجه مؤذنـة بانحلال نظامه القيمي وتشطي مكوناته الى شرائـح ومكونات والى “قَبْلَنَةٍ” مُستمرة، ومن المعلوم ان الإبقاء على النماذج التقليدية وازدهارها اجتماعيا كان كفيلا بتطور نموذج اقتصادي محلـي يجـرى التوافق موريتانيا على تسميته بالقطاع غير المصنف وهـو قطاع يمثل العمود الفقري لحياة أولئك الناس اللذين حوصرُوا على قارعة حيـاة الفقر والتخلف، مُكبلي الأيادي وخائِري القـوى!

تقليديا، فإن مؤشرات القطاع غير المصنف تمثل ما نسبته 70% من النشاط الاقتصادي بموريتانيا ومع اهميتها في تنويع مصادر دخل السكان الأكثر هشاشة الا ان المشاريع التي أفرزها (مجازر، مغاسـل واعمال يدوية مختلفة..) ظلت اوضاعها معزولة ومتشابهة من ناحية حجم الكتلة المشتغلة والتي وجدت احتياجاتها محصورة كماً وكيفاً دون أن يكون النظام الاقتصادي المتبع قادرا على السماح لها بالريادة والتطـور.

ساهمت هـذه العوامـل وغيرها في تتفاقم ظاهرة الأمية داخل المناطـق الداخلية حيث يشب المرء متحمسا للانخراط في القطاع غير المصنف دون ان يكون مؤهلا مهنيا ولا تعليميا ولا تتاح له آفاق أوسـع، فعلى رأس الاختلالات التنمويـة يرد ذكــر الفشـل التربوي والتعليمي المبكر لأغلبية الشباب الموريتاني المتعايش مع الغبن والحرمان في الأرياف وضواحي المدن الرئيسية، ومع الوقت ادرك الجميـع عـدم جدوائية سياسات الاستبعاد الاجتماعي التي جربتها الانظمة السياسية طويــلا!، ان هذا التمشي الوئيد الذي تعتمده الحكومات لتقليص حدة الحرمان داخل الأوساط المغبونة في موريتانيا تشبه ترديد حكاية طائـر الفينيـق الذي يُولد في كـل مرة من تحت الرماد (يحترق فيبعث مجددا من رماد عشه).!

تجمع الطبقة السياسية والاقتصادية في موريتانيا على أنّ انهيار الوضع الاقتصادي وتأزم أوضــاع الفئات المغبونـة إلى درجات غير مسبوقة يعـزى إلى فشل ما يسمّى بالأطــر الاستراتيجية لمحاربة الفقـر المتبعة منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين، وهـي خطط تحوي وعـودا حكومية متكررة تتضمن تصحيح الاختـلالات الملاحظـة محليا ووطنيا؛ فإبان سياسات التقويم الهيكلي تحت اشراف صندوق النقد الدولي جرى وضـع “الأطر الاستراتيجية لمحاربة الفقرCSLP” وقد اعتمد نظام الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطائـع على منهجية التخطيط الكمـي (Quantitatif) فجاءت جهود حكوماته مبعثرة وغير متناسقة وتفتقر الى البعد الكيفي (Qualitatif)، وكانت النتيجـة أعدادا هائلة من المواطنين مرت بتلك البرامج قبل ان تموت جوعا بسبب افتقارها للمهارات والوسائل بينما زاد دخل الاغنياء أكثر وأكثر؛ وبصفة أدق فقد حصــد الفقـراء انخفاض مخرجات التعليـم وساهـم تـزَايُدِ تراكُم الثـروة في أيدي أولئك في تمكينهم من الارتقاء التعليمي!. أما عن مرحلة العشريـة الثانية من الألفية الثالثة فقد اتسمت بظهـور “استراتيجية النمو المتسارع والرفاه المشترك” مرفقة بمحاولات مستميتة لاستدرار تعاطف المُعدمين في أحياء الانتظار (الحَيْ السَاكَنْ، تجمُع بُورَاتْ .. الخ) من لـدن الرئيس محمـد ولد عبد العزيز الذي تسمـى فجـأة في تلك الفتــرة بـ”رئيس الفقراء”!!

وزاد تصاعد الانتهاكات ضد حقوق الانسان من استحالة تحقـق العدالـة الاجتماعية أو تحسن نوعية الحياة بين المكونات والاوساط المحرومـة بناء على مبدأ توزيع الثروة التي احتكرها النظام وبطانته لنفسه مقدما للجماهير الكادحـة على امتداد مساحـة الوطن كلاما ديماغوجيـا موجها للاستهلاك كما تشير الأدبيات والمسارات المختلفة، وعندما اتضـح لمكونة لحراطين انها انما تنتظـر على حافة سراب بقيعة سارعت قواها الحيـة للاحتجاج ورفض ممارسات النظام وسياساته التمييزيـة، فلم يتباطأ رئيس الجمهوريـة في الرد على مواطنيـه المتظاهرين بخطابه الشهيـر في مدينة النَعْمَة (مايـو2016) والذي انهى بموجبه التزاماته كرئيس للجمهورية تجاه الفئات المغبونة والمهمشة.!

يهدف هـذا المقال لإبـراز التحديات الحياتية المستمرة التي تواجه الشريحـة المنتجــة داخـل المجتمع؛ وفيه محاولة لدارسة وتشخيص منظومـة القيـم الاجتماعية والثقافيـة السائـدة في موريتانيا ومـدى تغلغُل نظرة المركـز داخل أعلى هرم الدولة الموريتانية إلى فئات الهامش، مع التـركيــز علـى رؤيــة نظام الرئيس محمــد ولد الشيخ الغزواني للمعضلات الرئيسية التـي تعترض الفئات المَغْبُونَة (لحْرَاطِينْ نموذجا).

دينامية “المغبـون” … ومنطـق السلطة

لم يعرف التاريخ مجتمعاً خلا من العنصـرية أو العبوديـة، أو أقلـع عن إنتاج التراتبيـة والطبقيـة، متى تهيأت الظروف لذلك، لكن من غير المُعتاد أن تمتهن النُخبُ انكـار تراجيـديا مجتمعها، فتسعى على امتداد مساحـة الوطــن الى تلطيف الاحتقانات الكبرى بدل مواجهتها، والاستماع لآهات ضحاياها أفرادا ومجموعات، تتسابقُ لتسـويق التصورات الطهورية لسلوكيات المجتمع وممارساته وتناقضاته، ان الصفوة بهـذه العقلية القروسطية تستثمر في العجز عن ايجاد الحلول لمشكلات مجتمعها، وتصحيـح ما شاب العلاقات بين المكونات من أخطاء وعيوب ونواقص، وبطبيعة الحال فإن ذاكرة شرائح واسعة من الكادحين الأجـراء والمزارعين والعاطلين عن العمل بمختلف اعـراقهم وألوانهم وجهاتهم تحتفـظ بصفات واسماء والقاب من أهمل انتظاراتهم وتـراخى في تسـوية قضاياهـم وتحقيـق تطلعـاتهم المشروعــة، أو تلكـأ عن الاسهام في ابتداع الحلول والبدائل الملائمة لتغيير واقع المهمشين في الأرياف والمدن.

مع تخلي القـوى الوطنيـة عـن طرح مثل هـذه الاشكالات السياسية والاخلاقيـة، بشكــل واضح وصريح فرضت وسائل الاعلام البديل (السوسيالميديا) تحـاورا بيزنطيا بيـن المنتفعين من الأستاتيكا الاجتماعية (Statique Social) وضحاياها، بدت فيــه أصوات الفئات الأخيـرة مزعجـة، وجهوريـة فارضة على الجميـع اعادة النظـر في سيئات القيم و الأنسـاق المجتمعية السارية في موريتانيا، وقـد برهنت هـذه المناقشات على مأمونية الانتقال من حالـة اللاتوازن الى التكافؤ في المواطنة والانتقال من النبـذ الاجتماعي الى مرحلة المساواة المحسوسـة على مختلف الصعد، ومن وجهة نظر الأخيـرة فما كان مُبـررا ومعقـولا في سبعينات القرن الماضي من حيف المؤسسات وطغيان للحكام وضياع للقيم الأساسية للتعايش لم تعُد محاكاتـها مستساغة اليـوم، ولـم يعُد وعي الفئات المهمشة المتنامي يسمـحُ بتصور أو مُحاكاة العلاقـة القائمـة ـ من أي نوع كان ـ على تراتبيـة السادة والعبيد، كما لم تعُد المنافسات الحياتية المستمرة تسمح للمغبـون بالاستسـلام للآخـر أو مداهنته، بعدما اتضح للاثنان ان العلاقات باتت المصالح هي خيطها الناظم. ان تمادي الصفوة في التـلاعُب علـى مثل هـذه التناقضات والتعقيـدات لــم يعُد ملائما لعصر بات فيه الفرد قـادرا على الانتظام في مؤسسات المجتمع المدني (نقابات، منظمات ومنتديات) مبتعدا قـدر الامكان عـن العـزف على أوتار الأطـر التقليدية المختلفة، وحيث تُسهل عليه الابتكارات الرخيصة اسماع صوته كيفما يشاء .

فـي نهايـة المطاف، ساهــم تكون الهياكل الحقوقيــة المعبرة عن القـوى الاجتماعية المهمشـة (حركـة الحــر، نجــدة العبيـد، حركــة إيرا..)، في تكامل الرؤية مـع التشكيلات الحزبيـة والأطـراف السياسيـة والنقابيـة التاريخية كتيار الكادحين واتحاد عمال موريتانيا ولاحقا سمح ظهـور المركزيات النقابيـة الأخـرى (CGTM, CLTM) وغيرهـم؛ في تعزيـز المُفاضلـة بين الرؤى والمشاريــع أو احتساب الوزن النضالي والوقوف علـى صدقيـة ذلك من عدمـه، فكان أن سمعَ الناس بعضاً مما يريدون تغييـره و جـزءاً مما يأملون اصلاحـه داخـل تيـارات واحزاب وهيئات تنطلق نظريا من مبادئ واجتهادات عملية جريئة. والحقيقة ان بعض هـذه الهيئات بعدما رفع لمدد طويلة شعارات مُستجـدة تطالبُ بتقاسـم منافـع و رزايا الوطن الواحد، بين ابنائـه، وتعدُ منخرطيها بالمساهمة في صياغة “براديغم” جديد يرتكز على فهم ظواهـر المجتمع المستحدثة والحتميات التاريخية التي ستؤول اليها، انتهى بها المآل لتكون جزءا من المشكلة القائمة بعدما اتضح ان مبدأ المصلحـة والمنفعة ومساومة الحكام بغية نيـل المكانة والمنصب والمال هو محركها الأساس، بينما ظلت كيانات أخـرى مؤمنة بحتمية مواجهة الاستبداد والظلم الذي يرعاه النظام أو يتقاضى عنه.

حمل انتخــاب العقيــد سيد احمد ولد باب رئيسا للجمعيـة الوطنية في بدايـة تسعينات القـرن العشريـن أبرز تحول ملحوظ في توجه الأنظمة السياسية وجوهـر تفكيرها حـول مسألة المهمشين التاريخيـة، فسعت الى استيعاب ودعـم كفاءاتهم السياسية ومحـاولة اظهار نوع من التودد للشرائح الاجتماعية المهمشة والقطيعـة مـع الإدارة ذات الملامـح الارستقراطية عبر زيادة حضور أهل الهامش في مراكز صنع القرار وتنفيـذه. يستشف من انتخاب هـذا الضابط المنحدر من فئة لمْعَلْمينْ أن رسالــة رسمية جرى تصميمها بعنايـة لتصل راحـة الرأي العام التقليـدي بغيـة تهيئته نفسيا وتربويا لمقتضيات التحـول الى الحياة الديمقراطية ولجعله يقـر بجدارة كافة الفئات في تولي المسؤوليات الساميـة؛ ثم إن خطـوة أخـرى بدت خارقـة للعادة كانت قد فغرت افواه الزعماء القبليين في دائـرة الحوض الشرقـي سنة 1995 خـلال الانتخابات البرلمانية والبلدية، وكان من نتيجتها فوز السياسيـة فاطمة الزهراء منت اسْبَاغُو (رحمها الله) في خطـوة جريئة اجتماعيا ومتقدمـة سياسيا تمت برعايـة الحـزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي PRDS(الحزب الحاكم) الذي بكـر بترشيح هـذه السيـدة ذات الخلفية والأصـول الحرطانية في وجـه حماة العادات والتقاليد المرعية من وجهاء وأعيان، كانت هيمنتهم قد طالت على المواقـع الانتخابيـة والادارية والحكومية المؤثـرة على صعيـد الولايـة والعاصمـة كذلك منذ الفترة الكولونيالية؛ أثـار الترشيحُ والنجاح وأمثلة الريادة السياسيـة هـذه زوبعـة وطنية قبل ان تكون محليـة، لكنها سريعا ما تراخت وتراجعت بعدما اكتشف الجمهور أنه تحول سمج لا يمكنه تغيير العقليات والاحكام الجاهـزة وبأنه لم يكن وليـد قناعـات سياسيـة عميقة او تحولات قيمية محسوسة، وبالتالي لـم تأخـذ الفئات المغبونـة مكانتها السياسيـة، ولـم تستعد حقوقها الاجتماعية والاقتصاديـة بل بقيت شبه معزولة ولم تخترق هـذه التمظهرات إلا بعض الاستثناءات العابـرة.

ومع تحول قضية المهمشين لتصير مجالا للتجاذب الحاد، والمنازعـة بين النفي والإثبات، تبعا لموقف المرء الايديولوجي او العرقي من المتغيرات الاجتماعية الراهنة، فالاتجاه التقليـدي يخوض صراع المحافظـة على التراتبية الطبقية مدعوما بتاريخ طويل من العلائق المتحيزة وهو يعتقد أن رؤاه تستند الى منطق اجتماعي أزلي أو قدر إلهي باق، بينما نجـد اتجاها تحرريا/انعتاقيا يخوض صراعه من اجل المساواة بين المواطنين مدعوما بقوة منطق العصـر وتحولات المجتمع تجاه الحداثـة، ومستفيدا من القيـم الثقافية والدينية الرافضـة للتمييز. على ضوء هذه الصور المكررة ألقـى الرئيــس محمـد ولد الشيخ الغزواني مؤخـرا بأول بالون اختبار جـس من خلالـه نبض الشارع السياسي من جديـد، و ملفتا انظار أصحاب المصلحـة من الفئات المهمشة الى أن تجاوز الواقـع تعدُ مسألة ممكنـة على ارض الواقـع، لذلك سارع للإعلان في مارس 2019 أمام مناصـريه وناخبيه عن نياته بشأن المسألة الاجتماعية والاقتصاديـة، ثـم تلى ذلك بتعهداته أمام المواطنين بقصر المرابطون (اغسطس 2019) محاولاً في تينـك المُناسبتيـن التاريخيتـين اعطاء الانطباع بأنـه يملك ”التقويم الصريح واليقظ للحالـة الاجتماعية والسياسية في موريتانيا“، ففي خطاب ألقاه عقب أدائـه اليمين الدستوريـة وعـد بإضفاء صيغـة “الشمولية والطموح والواقعية في آن معا وتؤسس لمستقبل واقعي عبر التركيـز على معالجـة مكامن الخلل ومواطن النقص واجتثاث الفوارق والقضاء على مظاهر التخلف”، انه مما لا شك فيه أن هـذه الخطابات قـد اعادت الكـرة من جديـد الى مختبرات السلطـة وصناع القرار داخلها.

يلاحظُ، أنه من أهم المبادئ التي تكررت في البرامج الاجتماعيـة لنظام الرئيس الغزوانـي، منذ سنـة وحتى كتابـة هذه السطـور ترد باستمرار مُفــردة “الغبن” و”المغبونين” وضحايا الإقصاء، فالرئيس الغزواني يغازل بشكل مباشــر مواطنيـه من الفئات المهمشـة، فخلال فحص خطابـه وتفحص فقراته وجمله وحتى في ادق فقراته نجـده يمني المغبونين ويعد المهمشين فيتحدث الغزواني في هذا الصدد “عن التحديات الكبيرة والمسؤوليات الجسام” محاولا ايصال ما يرغب من الرسائل لمواطنيـه، صحيحٌ أن الموريتانيين يهتمون كثيرا بجوانب البلاغـة وامارات الفصاحة خلال خرجات رئيسهم الجديـد، ولكنهم أيضا واعـون ومدركون لمنطقية الخطابات حيــن تكون واضحـة وصريحة، حيث تطـور الموقف السياسية من شعارات ووعود انتخابيـة الـى مرحلة ظهرت فيها البرامـج التنمويـة كمندوبيـة تآزر و وكالاتها المختلفـة، وتجسيــد مستوى من التشاركيـة الحكومية (6 وزراء بالحكومـة)، قـدم الرئيـس محمـد ولد الغزواني منذ تسلمه للسلطـة، قبل سنـة من الآن تصوره العام لموريتانيا الجديـدة كما تدور في خلده، فمن خلال أوراق العمل التي تحددت ضمنها اولويات نرى أن الغايـة والهـدف منها هـو “تقويـة اللحمة الاجتماعية والمسـاواة بيـن المواطنين في مقدمة اهتماماتي” تنطوي هـذه الاهتمامات كما هـو معلنٌ على مبادرات لتشغيـل وتمويـل الشبـاب وبناء الـوحدات السكنية، وفـق مقاربات نظريــة من شأنها لو تجسدت أن تحد من المظالم الاجتماعية والاقتصاديــة الماثلة للعيان، ويعلمُ الرئيـس الغزواني واعضاء حكومته أن الموريتانيون يستعجلون على الانجازات العظيمة ويستبقون النتائج المفيدة، وأنهم ينتظرون نهايات مواجهة نظامه لرموز الفساد والإفسـاد، هذا هـو التحدي الأكبـر، أما على صعيـد الجبهة الاجتماعية والاقتصادية فالمُوريتانيون باتوا يربطون بيـن ثنائية : التعايش المستمر بين الأعراق والتبادل السلمي على السلطة، وبين الدعوة الى الحـوار وانهاء القطيعة بين القوى الوطنية، وبين العربـدة السياسية والتلوث اللفظي، وبيـن الحكمة والرعونة.

في اعتقادنا فإنه شرعيــة النظام الغزوانـي لا يمكن أن يبحث عنها فقـط بواسطـة الخطابات الجميلة والمهذبة غداة انتخابه شرعيا، ولا من خلال محاسبـة الرئيس السابق محمـد ولد عبد العزيز أو كشف أوراق تسييره للبلد، ولكن الشرعية التي ينبغـي عليه تحصيلها تتمثل في “قبول المحكومين” و اقناعهم بجدارته للتميـز عن بقية حكام موريتانيا السابقين، والابتعـاد عن محاولات “إذعانهم” لخياراته السياسية و التنموية، والشرعية السياسيـة في موريتانيا متنقلة ومتحركة على الدوام : تتغير، تُكتسب، تُكرس، تفرض كما تضعف وتتآكل إلى أن تُفتقد، لكــنها في حالـة النظام السياسي الحاكـم حاليا ستكون محصورة بمدى قُـدرته على ردم الثغرات الاجتماعيـة، واصلاح تناقضات السلطة الكثيـرة على صعيـد الممارسة السياسية، والاستبعاد الاجتماعي والخنق الاقتصادي، فمتى أراد رئيس الجمهورية الانطلاق دون تأخيـر أو إبطـاء في بناء نظام سياسي شفاف وعادل، بحيث يختلف شكله ومضمونه عـن الأنظمـة السياسية التقليديـة التـي عرفتها موريتانيا منذ سقوط نظام الحزب الواحـد في يوليو 1987، سيكون في مصاف الانظمة التي يحس بها الشعب ويتعلق بها المواطنون. تتطلب أي رؤيـة مُغايرة لما هو مألوف هيكلة و آليات تنفيذية جادة وبديلة عن تلك التي جُربت منـذ ستين سنـة دون أن تعطي مؤشـرا اخلاقيا او قيما مدركا؛ فبدلا من أن تسهم الانظمة الموريتانية في تحقيق العدالة الاجتماعية تمادت في تجذير التفتيت الاجتماعي، وبدلا من اقتلاع العبودية والطبقية قسمت السكان إلـى أحرار وعبيـد، ناهيك عن اهدار الزمن وتبديــد الوقت والامكانات والقدرات للحيلولة دون تجذير الأواصـر والعلائـق القائمة بين الاجيـال.

انشغل الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي خـلال سجنه بمثل هـذه الأوضاع/الاشكالية في ثلاثينيات القرن الماضي حيث كتب يقول ان ”الأزمة تتجلى تحديدا في أن القديم آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيـع الجديدُ أن يولد؛ وفي فترة التريث هذه، يبــرز عـدد كبيـرٌ من الأعراض المرضية“، ونحـن ندرك الآن أكثر من أي وقت مضـى انه بإمكان النظام الموريتاني الحاكم حاليا أن يسهــم في أطـوار الأزمـة الاجتماعية والاخلاقية التي رحلتها اليه انظمة سابقـة لكن تلزمه مسؤوليته التاريخيـة والوطنية مواجهة اشكالاتها دون ابطاء أو ارجاء، فهــل تعي الجهات المعنيـة والحالـة هـذه ان الانصات الى الفئات المغبونة دون غشٍ أو غـدرٍ، وبـدون كذب أو خداع بات أمرا حتميا لا مناص دونه؟!

الواجب هـو تغييـرُ عقليات التذاكي على المَطالب الاجتماعية

في اوائل التسعينات قابل الموريتانيون بحماس شديـد تحوُل بلادهم إلى التعددية الليبرالية، وفي الواقع كانت القوى الوطنية تُحـس بأن هبوُب رياح الديمقراطية على بلادنا بهذه الطريقة يعدُ بمثابـة اعلان لاستقـلال الشعب الموريتاني، بعد استقلال الدولة نفسها عن السلطات الاستعمارية الفرنسية العام 1960؛ سريعاً أدرك قـادة التشكيـلات السياسية والحزبية القادمـة لتوها من المعارضـة “السريـة” أو العائـدة من المنافي ان شعورها ذاك كان مجرد خفةً سياسية وسذاجة شخصية لا سيما وانها ولا شك اشتمت على مـدى عقـود متتاليـة تصاعد رائحة المُحاصصة القبليـة والترضيات القرابية، واذا شئتم، فإنه من الواضـح أن الجهود النضالية لهذه الحركات قد ضاعت في متاهـة أنظمة صممتْ بعنايـة لتبقـي على جوهر حكم استبدادي ظالم و لتحفاظ على طريقة التفكيـر والتصنيف المجتمعي الموروثـة عن فتــرة ما قبل الدولـة الوطنيـة.

تـأْسيسا على ما تقدم فإن ما كـان لعُقود وحقب أمـراً بديهياً مقبولاً ولا خطـر فيه داخل الاوساط المجتمعية قد تحولت بشأنه القناعات الشعبيـة لتدرك بأن الفعل السياسي المنظم ليس هدفـه المجتمع بعامـة ومؤسساته وانما خدمـة المشاريع والافكار المؤدلجة ذات الاجندات الضيقة في احسن حالاتها والخارجية في اسوئها، وترى أصوات كثيـرة أن ما يحصل يشبه مزحـة موريتانية سمجة ما كانت لتستمر 40 عاما لولا تواطؤ الطبقة السياسية الموريتانية بتياراتها المختلفة؛ المحافظة واليسارية والديمقراطية والليبرالية والتي ساهمت في تضييع أمارات التغيير الديمقراطي وزادت عن وعي بذلك أو بدونـه من هيمنة ضباط المؤسسـة العسكريـة على المشهد السياسي.

منذ العام 1992 وحتى آخـر تصنيف للعام 2019 جـري تضمين بلادنا الى جانب الدول غيـر الديمقراطية (Pays non démocratiques) في مؤشـر الديمقراطية1 الذي تصدره “فريدوم هاوس”، كما حلت سنة 2019 في الترتيب 116 عالميا والـ26 افريقيا الصادر عن وحـدة “إيكونوميست إنتيليجانس EUI” البحثية التابعة لمجـلة إيكونوميست البريطانية، وهـو حيز يضم تحديدا الدول المصنفة انظمتها على أنها سلطويـة وذات ديمقراطية شكليـة، يستند هذا المؤشـر إلى مقياس يتدرج من الصفر إلى 10 ويركز على معاييـر عـدة؛ من بينها الحريات المدنيـة والعملية الانتخابيـة والتعددية السياسية والأداء الحكومي والمشاركة السياسية وتجذر الممارسـة والثقافة السياسية، ووفقا لهذا التقييم فقد استقرت موريتانيا على المؤشـر عنـد 3,92 نقطـة دون تغيير في الأعوام السابقـة، نحن ندرك ايضا ان مثل هـذه المؤشرات ليست مصدرا للشرعيـة لكننا نعلم ان أحـد أهـم الدروس التي جرى استخلاصها من 40 عامًا على إطـلاق الديمقراطية في بلادنا يتعلق بالتغاضــي التام عن مثل هذه التقييمات السنويـة وعدم الاكتراث بتصنيفات موريتانيا في قعر التخلف نتيجـة لسطوة خيارات المجتمع التقليـدي ومخاوفها.

ضمن مشهـد الصلف والجمود هذا تكمن إحـدى أكثر حالات الخلل الاجتماعي والحضاري تعقيـدا على الاطلاق بالنسبة للموريتانيين؛ فنظـام الدولـة الوطنيـة بالنسبة لكيانات الريادة والصدارة السياسية والثقافية هـو ظاهرة نشأت في الغرب قبل فرض فرضا بُعيدَ مؤْتمَر “لا بُولْ” من قبــل المؤسسات المالية الدولية والقوى العظمي، أو هي كما يصفها بيرتران بادي Bertrand Badie ‶دولة مستوردة ذات روح غربية″2، وفـي الواقـع فإن اقامـة دولة مدنيـة ليبرالية على النمط السائـد في معظـم الدول القافزة تنمويا واجتماعيا لا يغري البتة صفوة المجتمع الموريتاني التي تعتقد انها تحكم نتيجـة لتنافس قبلـي وليس حزبي، عرقي واثني وليس سياسي أو ديمقراطي، وهكذا نشأت الدولـة الموريتانية وتضخمت هيمنتها السياسيـة داخـل التشكيلات المدنيـة مُعززة بذلك من ميُول الطبقـة السياسيـة تجـاه تدخل الضبـاط في الممارسـة السياسية (الانقلابات) وجعـل من التغيير الاجتماعي أو معالجـة اشكالات التخلف ومظاهـر الدولة الشمولية، كما عرفت إبان حقبة الحزب الواحـد؛ أمرا مستبعدا ومؤجَـلاً الى حين!؟؟

أفرزتْ هـذه ”الْخَلَيْطَه“3 نزعات عرقيـة وشعبوية لم تستطـع الحكومات شـراء ولاءات زعمائها، ولم تقدر الانظمة على استيعاب راديكاليتها أو احتواء جذوتها التي تتغذى على الاحساس بواقـع يختمر فيـه الاستبـعَادْ والغبن والتهميـش واليأس المستمر من استحالة تغيُـر أوضاع بدت ظالمةٌ، وكان من شأن السيـر في هذا الطريق غير الممهد أن تمادي الحـاكمُ في محـاولاته لــ”ترقيــع” الحـلول لمعضلاتنا الاجتماعية عبر إجراء التسويات غير الناضجـة وغير النهائية والتي يسهل التنصل منها لاحقا والانقضاض عليها متى شاءت أمزجة الأنظمة (سياسـة العدالة الانتقالية التي اقترحها الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله 2008 وتحولت الى شعارات ديماغوجية كنموذج)، ومن جهـة أخـرى بات من الواضح لكثيـر من قادة الرأي الوطني ان ترحيـل المشاكل العويصة أصبح الأسلوب المعتمد لدى جميع الحكومات دون استثناء، وفـي مقدمة السياسات والقرارات المتبعة للتأجيل مسألة تجذير العيش المشترك داخل فسيفساء المجتمع المتنوع، فتأجيل التحاور علـى هذه المسألة أصبح نوعاً من الممارسـة الرسمية السائـدة منـذ مُـؤتمر ألاك الشهير 1958، وهــو المؤتمر الـذي حـدد فيـه ابناء الاعيان تحت رعايـة فرنسية ملامــح نظام سياسي عائلي ـ قبلـي غير قادر على استيعاب التغيرات الاجتماعية والتطورات المتلاحقـة، ومما يزيد الطين بلةَ أن المسؤولين عن تلك الحقبة من التاريـخ الوطني اغفلوا طبيعة المجتمع وديناميكيته بل تناسوا ان الوعـي يتطور وأن أكثــر المجتمعات قابلية للتغير هي المجتمعات الصحراوية، وكان من نتائج ذلك أن سعَتْ الأنظمة لعقود طويلة الى ترحيل اشكالات التعايش ومشكلات الاجيال المستقبلية بدل معالجتها وتسويتها، وهذا ما جعَـلَ ضحـايا تلك السيـاسات ينادون لاحقا بهَدْمِ الْمَعْبَدِ على من فيه.

خطاب الغزواني : كيف يسعـى الرئيس للتخلص من صداع “الإنكار”!

جاءت انتخابات يونيــو 2019 لترجح كفـة الاصلاح الاجتماعي المتدرج كما تبناها الرئيس الغزواني (من داخل النظام) وان كانت درجـة استيعاب مثل هذه الـرؤى ضعيفة جدا داخـل محيطه ومناصـريه اللذين لا يخفى على أحد أنهم يتشكلون من الأعيـان قبل السياسيين، ومن كبار السن قبـل الشباب ، ومن الموظفين الطامحين قبل جيوش العاطلين عن العمـل، وهـي معادلـة ستعيق دون شـك فرص تطبيـق السياسات التنموية كما صاغها الرئيـس محمـد ولد الشيخ الغزواني ضمن تعهداته الانتخابيـة، إن رسالة الفائـز لتوه بنسبة 52% من أصوات الناخبين كانت كالتالـي : “سأسعى الى خلق مناخ طبيعي و هادئ يضطلع فيه كل فاعل بدوره الدستوري انطلاقا من تموقعه السياسي، فبلدنا ليس نشازا ويلزمه كباقي الدول وجود اغلبية تحكم ومعارضة تتابع وتنتقد في اطار توافق يحترم لكل طرف دوره ويحدد مساحة تدخله وفقا للآليات والمساطر الدستورية…”، سلطت خطابات رئيس الجمهوريـة الضوء من جديــد على أهـم معضلـة تواجه موريتانيا في تاريخها الحديث، فلأول مـرة تظهـر السلطات نوعا من التعاون مع ضحايا التمييز، العبودية ومخلفاتها والاقصاء ومظاهره مما يعني حدوث تغييـر جذري في نهـج “الانكار” المتوارث طيلة الحقب الماضية. علينا الاقرار أننا لسنا امام تقييم مرور عام على تقلد رئيس ثوري لزمام السلطـة، لذا فإن ما نلمسه الآن هـو الأثـر الذي يتسنـى لقائـد يهتم بالأساليب الاصلاحية الهادئة والتي تنشد مساعـدة المكونات الاجتماعية المهمشة، وفـي هــذا السيـاق يوضح خطاب اعـلان الرئيس محمـد ولد الشيخ الغزواني ترشُحه في فاتـح مارس 2019 والذي دام أربعـة عشـر دقيقة خارطـة الطريق الكفيلة بالنسبة له بمحــو الفوارق الطبقية والفئوية : ” سأخوض حربا لا هوادة فيها ضد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وكافة أشكال التمييز مهما كان مصدرها وأسبابها.”، داعيا في الآن ذاتـه الى بناء “أمة غنية بتنوعها، ترفض الاستسلام لدعوات القبلية والجهوية والفئوية”.

وبشكــل من الأشكال فإن استعادة ملفات العدالـة الاجتماعية بما في ذلك مسألة العبودية الصدارة على مستوى النقاشات العامة شكلت بارقـة أمـل مضاعفة بالنسبة لحركات و دعاة حقوق الإنسان؛ فتناقلت وسائـل الاعلام رؤيـة رئيـس موريتانيا الجديـد الداعيـة الى تقليـل الفوارق الطبقية وما يُـرافقها من حرمان من الثروات والخيرات الوطنية الوفيـرة، فـي التصورات المعروضـة أمام الموريتانيين يتجاوز عرض رئيس الجمهوريـة كل ما هـو دستوري ومؤسسي إلى كل ما هو اجتماعي واقتصادي من خلال اعادة توزيـع الدخـول من خلال زيادة معدلات التشغيل وتطوير جودة التعليم (منسقية التشغيل، اصلاح التعليـم الأساسي) لقد أشرنا آنفا الى محاولات السلطة لتغيير الصور النمطية القاتمة التي يلصقها العالم بموريتانيا، كما توضحها محركات (google) بكافــة لغات العالم وربما يكون الخطاب الرئيس مدركا لأهميـة التقليل من حجم السخط حيال الانتماء الوطني لدى فئات عريضة من شعبـه : “سأعمل بقـوة وحزم من أجل القضاء على جميع مظاهر الغَبنِ والحيفِ أيا كان مصدرها وآيا تكن طبيعتها، وسأولي عناية قصـوى للفئات الهشة وتلك التي عانت تاريخيا من أي شكل من اشكال التهميش عبر برامج قوية وتدخلات موجهة تمكنها من التخلص من جميع آثار التخلف والالتحاق بباقي مكونات المجتمع.”، يمكن لمن يهتم بشخصيـة الرئيس أن يقول بأنه يلعب دوراً جوهرياً في تحقيــق الشرعية المطلوبـة لنظام اعتمادا على الصدق مع المواطنين وفاعلية الإنجاز، لكن لا أحـد يستبق الأحداث ليقول بأن القيادة الفذة قـادرة على التأثير في المجتمع والدولة أو أن خطاباتها (تزيــد على خمسـة عشـر خطابا رئاسيا) ستحمـل البُؤساء للنوم في عســل النظـام الحاكم.

يوجدُ احساس ملاحظ على مستـوى شبكات التواصـل الاجتماعي مفاده ان الرئيس الغـزواني يسعـى للانخـراط في الأفعـال والإجـراءات الملموسـة على صعيـد تطـوير وترقيـة المناطـق والاحياء المهمشة وسكانها بعيـدا عن التناقضات الديماغُوجيـة المألوفـة فغــداة الذكـرى التاسعة والخمسين لعيد الاستقلال عبــر الغزواني على مضيه قــدما في تحقيــق مساعي المساواة بين المواطنين كما تتطلب ذلك المرحلة : “.. و في هـذا السياق اكتملت مـؤخرا مشاريع النصوص القانونية المنشئة لمندوبية عامة، تتبع رئاسة الجمهورية مباشرة، يعهد إليها بتسيير كل البرامج و المشاريع المتعلقة بمكافحة الفقر و الهشاشة . و قد رصدتُ لها، على مدى السنوات الخمس المقبلة ميزانية تقدر ب200 مليار أوقية قديمة، وسيتم إنشاؤها في الأيام القليلة القادمة. كما يجري العمل على إنشاء مجلس رئاسي لمتابعة السياسات الاجتماعية، سيتكفل بالمتابعة الدقيقة و المنتظمة لمستوى نجاعة وفاعلية تنفيذ هذه السياسات في محاربتها للفقر و الغبن والهشاشة وفى تحسينها لجودة الخدمات الأساسية.”.

على مستوى الفهم والاستيعاب فإن التمويل الموجه الى ضحايا ازمات الاستبداد والاستغلال من الطبقات الاجتماعية المفقرة والمهمشـة يجعـل من المقاربة المقترحة حاليا ذات ملامح اقتصادية أساسا، وبالفعــل فإن الفئات المعدومـة لا تستطيـع كسر مسار الدوران في حلقة التهميش التي دامت لقرون وعقود بدون تدخـل الدولة الموريتانية الفعال حيث ينتظر المستهدفون بتدخلها ضخ التمويلات والارتقاء مهنيا بمشتغلي القطاع غير المصنف، ثم وضع اللبنات المادية الكفيلة بالرفـع من مستوى المعيشة والوعي. تثيـرُ هـذه التوجهات العديـد من التساؤلات بشـأن أولويات الغزوانـي الحقيقية، ليـس فقط من ناحية تكلفتها ولا مـن أين سيُوفـر تمويلها، بـل هـل سيمكنه الاستقطاب السياسي والفئوي مـن ادخالها حيـز التنفيـذ؟ وهـل تحظـى أولوياته بالقبول لدى لحْراطين؟

استبـق الغزواني الأحداث في خطاب أداء القسـم الدستوري ليقدم رسائل طمأنة موجهـة الى الجميـع جاء فيها على أنه “على وعي تام بأن تنفيـذ المشروع التطويري الشـامل الذي اعتـزم اطلاقـه يتطلب مناخا سياسيا هادئا يُساعد في تركيز كافة قـوى الدولة على الجهد التنموي.” بيد أنه في غمــرة معركـة التخلص من العوائـق والعيوب التقليدية فإن شرائح عريضة تستحضر ثـلاثـة اعتراضات أساسيـة:

أولهما : يستحضـر نـداءات الأنظمة السياسية كلما أرادت التعبيـر عن نفسها (البيان الأول 1978، خطاب النعمة 1984، الفتــرة الانتقالية 2005، تسوية الارث الانساني 2007، رئيس الفقراء 2009 ) فكلها قدمت وعــودا متتالية بالإصلاح أعقبها استحواذ على السلطة وتهميش واقصاء وترد في المجالات كافة، ومع التسليم بتعدد الأسباب وتداخلها وترابطها فإن المحصلة واحدة : وطـن مختطف، ومواطـن مخدوع شعب ممزق، نخب متصارعة على الغنائم ودولة يهددها الفشـل بعدما أصابها الترهل وفقدان الرؤى وغياب الاهداف وعـدم التوافق على شيء.

ثانيهما: قبُول القوى المدنية الضمـني بتـدخُل ضباط المؤسسة العسكريــة في المشهد السياسي منذ العاشـر من يوليو 1978، فالمواطن البسيط يُدركُ أن احد اهم أسباب استيلاء العسكريين على السلطة في موريتانيا يندرج في سياقات ايديولوجية وحسابات سياسية يهيئوها و يصنعها على المدى القصير فاعلون مدنيون.

ثالثتهـما: في تلك الأثناء، وبعدها تنامى الإحساس بخيبـة الأمـل داخــل أوساط شبابية باتت تعيش حالة اختمار طويل اودت ببعضها إلي محاولة استنساخ ثورات الربيع العربي في موريتانيا (يناير 2011)؛ وفي مارس من نفس العام تفجرت مظاهرات الطلبة الزنوج داخل الوسط الجامعي للإعلان عن رفضهم سياسات التعريب، وبُعيـدَ ذلك في سبتمبر 2012، خـرج تنظيـم “لا تلمس جنسيتي Touche pas à ma nationalité” ضـد ما اسماه سياسات النظام التشكيكية في الانتماء الوطني للقبائل الزنجية (بولار، سوننكـيه، ولووف)، وعلى نفس المنوال جُرب التمرد من جديــد على النظام العام في الثانـي من مايـو 2017 بنواكشوط (العاصمة السياسية) وأنواذيبو (العاصمة الاقتصادية)، سمحت وسائل التواصل الاجتماعي لهذه التيارات بالوصول إلى قاعدة شعبية أوسع، ولا سيما جيل الشباب، وهـو ما يجعل محاولات لجم طموحاتها حين تسعى لفرض التغيير متعـذرا وصعبا.

من أيْـن يبــدأُ التضامن الاجتماعي في موريتانيا؟

لضمان نجاح المقاربات الاجتماعية الحالية من الضروري مراعاة أبعادها السياسيـة المتعددة، والعمل على اعادة صياغـة الاشكالات التي يثيرها استحواذ المركزيـة الثقافية على خيارات الاطراف المغبونة، فمعالجـة مسألة العدالة الاجتماعية من هذه الزاويـة بشكل واضح وشامـل من شأنه ان يسهم في تقديمُ حلول ناجعة ومفيـدة للبلد.

صحيح أنه في يوليو الحالي تم الاعلان عن مئات مشاريع الشباب المُدرجـة في مُوازنات التمويل التضامني يأتي ذلك كتعبيــر رسمي عن وجود إرادة قويـة لمكافحة الفقر و الإقصاء الاجتماعي، لكــن يمكننا تقديمُ أفكار جديـدة علها تساعد من يهتـم :

لا يجب ان يكون تسليـم الأموال غاية في حد ذاته، بل الأهــم هو مصاحبة وتدريب حملة المشاريـع لأنه بدون وجود قياسات النجاح او الفشل تصبح العملية في حكم الجهد العبثي.

بالنظر الى التطورات الاقتصادية التي افرزتها جائحـة كورونا، فلا يمكن بناء موريتانيا وتأمين مستقبلها في الوقت الذي يٌترك شباب الأرياف جانباً، بحـجة انهم بلا مؤهلات أو لكونهم يفضلون البقاء في مناطقهـم البعيـدة، لذا فقـد حان الوقت للتفكير بشكل مختلف، فيما يتعلق بلا مركزية السياسات التنموية.

احياء دور مراكز التكوين والتدريب المهني وفرض تعلم اللغات الاجنبية الزاميا بالنسبة لليد العاملة من مختلف التخصصات.

إن التنمية التي يتـوق لها المغبون يجب أن تسمح لـه بالتقـدم المستمر على مستوى المعيشـة ونوعية الحيــاة، غير أن “الاقتصاد المنصف” لن يكون كذلك ما دامت المكونات المهمشة (لحْراطين، أو أمعلمين أو اقليات زنجية) غيـر قـادرة على تحصيـل الأصول الاقتصادية الكفيلة بتطوير مبادراتها التجارية والربحية، ومـن الجيد في هـذه السياق:

تسهيلُ حصول السكان على سنـدات التوثيـق العقاري و توجيـه مؤسسات القـروض للاستثمار في الاحياء غير الراقية مع امكانية استفادة اصحاب المقاولات المتوسطة والصغيرة من تمويلاتها وقروضها.

تحفز ريادة الأعمال في المجال الرقمي من روح الريادة بين الأوساط الشبابية، ففي الوقت الذي يصبح فيه المبتكرون الرقميون العمود الفقري لاقتصادات بلداهم، فإن السلطات الموريتانية مطالبة بعدم تضييع الفرص الهائلة التي تنشأ من هذا المجال.

من اللائق اعتماد سياسات اقتصادية وتشاركيـة لإيجاد اقتصاد منتج ومتنوع يمكنه ان يساعد الفئات المهمشة على الصمود، عبر تشجيع الإنتاج الزراعي والفلاحي بدلًا من تشجيع الاستهلاك (شريطة تطبيق الاصلاح العقاري).

تحديدُ الخطر الأساسي الذي يهدد الهدف الوطني والتركيز على مواجهته، يتمثل هـذا الخطـر فـي تمادي النخب في الانكار وتشجيعها رسميا على ذلك، كما لا بد من مواجهة الجانب التضخيمي الكاذب عبـر التعاون مـع الأصـوات المسؤولة والتي تعملُ على مساعـدة الضحايا واقتراح الحلول والبدائل المفيدة للانسجام الاجتماعي.

إن أي اجراءات أو برامج تنمويـة لا تنهي حالـة الشعور الفلسفي بالاغتراب داخــل الوطن ستدفع الى الناس الى مزيد من الاحباط واليأس، والاغتراب هنا هـو قيام الفرد بنفـي نفسـه كفرد فاعل في المجتمع، لتحول الى حالة انعزال عن ذاته ثم عن محيطـه، بعدما اصيب بالاغتراب هكذا يعرفه الفيلسوف الألماني “جورج فريدرش هيغل”، وهكذا حين يعجز كثر منا عن تحقيق أحـلامهم يتحولون الـى:

ان المناطق السكنية ذات الصبغة العرقية الواحدة توفر محيطا مناسبا للتطرف والعنصرية، كما أن الاغتراب بحد ذاته يعدُ حاضنة رئيسية للإرهاب المزدهـر في منطقة الساحل؛ لهذا السبب يجب صياغة اطروحات وطنية جديدة، على ان تعتمـد على التحاور الفكري والتساكن المختلط والمجالس الدينية المتسامحة.

تجب مراجعـة المقررات والمناهج التربويــة العتيقة من اجــل التقليل من جرعات التعصب والماضوية وبناء مُواطن موريتاني صالح لممارسة الحياة المدنية والدينية، دون تعارض او تناقض، دون نفاق أو تملق.

الجهويـة أو اللامركزيـة، لا تعني وجود ادارة مدنية الى جانب أخـرى منتخبة ولكنها تعني الاجتهاد في إيجاد الحلول الملائمة لكل ولايـة/منطقة، وهـو ما يتطلب تدبيـرِ الخدمـات الادارية، والصحيـة والخدمية لفائـدة المواطنين بهـدف تعبئة الإمكانات محليا وعقلنـة العلاقة بين المواطن والدولة على المستوى الجهوي.

يمكن لوسائـل الاعلام عند اقرارها بمبـدأ التعدديـة الثقافيـة لبلادنا أن تسـاعد النظام السياسي على بلورة مساحـة من المرونـة في التعايش بين المكونات وفرض الاحترام والحوار بين الأفراد والجماعات.

ان تدبيــر الاختلالات الاجتماعية في موريتانيا وفق عقليــة أمنية محضة انما يزيـد في اعاقـة تحقيق الأبعاد التنموية الخاصــة بالقضاء على الخصاصـة والفقر والتمييز العنصري، حيث ان الحضــور الطاغي لمثل هذه العقلية على المستويات العليا في الدولة يمنعُ من الاستفادة من التجارب التنموية والانسانيـة المرتبطة بالعدالة الانتقالية.

أخيرا، يحتاجُ الموريتانيون بعامـة للاستفادة من تجارب العديد من القيادات السياسية الملهمة بالنسبة لشعوبها والتي نقلت بُلدانها من التخلف الى التقدم، مثل الزعيــم الهنــدي “مان مُوهان سينج” الذي اخـرج بلاده من الفقـر لتصبح جزءا من القـوى الاقتصادية العظمى بعدما كانت ولعقـود مستضعفـة تدور في فلكها وتتـودد لنواديها. تؤكد كل الدراسات المتعلقة بتطور الهند بأن الموارد البشريـة المبدعة هي صاحبة الكلمة العليا في تحقيق نهضتها وتقدمها، كما كان ولازال التوافق على المسارات الاجتماعية والسياسية ومحاربـة الفساد والافلات من العقاب القاسـم المشترك بين كل من يتوق للالتحاق بعائلات الزعماء من أمثال “لي كوان يو” حكيم سنغافورة ومؤسس نهضتها الحديثة، والرئيس البرازيلي “لولا دا سيلفا” الذي اخرج سكان الصفيح من اخبيتهم ليساهموا في الدورة الاقتصادية والذي حولت سياساته البرازيـل مـن بلد تابعٍ الى متبوع عالميا.

و في هذا الإطار، لا يحتاج الموريتانيون الى “رؤســاء أقـوياء” مُتصفيـن بمزيـة “العين الحمرة” ومجاراة الاستبداد والظلم الاجتماعي، يهابُهم الأجنبي قبل المواطن البسيط، تتملق الواحد منهم الطبقة السياسية وتجـري القواعد الشعبية خلفه وتصفـق، وانما الى قائـد قادر على حماية فئاتها المستضعفة والمغبونـة وفق توليفة من الحلول الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، بالإضافة إلى الاقتصادية، حتى تحـس وتشعر بأن مواطنتها حقة وأن مساواتها مع غيرها محققة.

الهوامش

مؤشــر الديمقراطيـة الذي تنشـره منظمة “فريدوم هاوس” هو بمثابة تقييم للديمقراطية في البلدان. حيث يتم تصنيف الدول على انها : اما ديمقراطيات كاملة، أو ديمقراطيات معيبة، أو انظمة هجينة، أو أنظمة استبداديـة، يعتبر المقياس الديمقراطيات الكاملة والمعيبة والانظمة الهجينة بمثابة اشكال ديمقراطية، ويصنف الدول الاستبدادية بمثابة اشكال من الديكتاتورية، وضمن الفئـة الاخيـرة يجري ذكــر بلادنا. يعتمد هذا المؤشـر على 60 مؤشــرا تم تصنيفهم في خمس فئات مختلفة لقياس التعددية والحريات المدنية والثقافة السياسية.

Bertrand Badie,”L’état importé l’occidentalisation de l’ordre politique”, Paris : Fayard, 1992

تعبيـر وصف به رئيس حزت تواصل (الاسلامي) المدارس المختلفة داخل حزبه/ كان ذلك خلال مقابلة اجرتها معه تلفزيون الموريتانية بتاريخ 22_07_2020 وهـي يعني “التركيبة” أو الخليط غير المتجانس فكريا وسياسيا وحتى في الرؤى والمواقف.

عبيــد إميجن

كاتب صحفي ـ رئيس منتــدى الأواصر للتحاور في موريتانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى