جريدة “الشعب”.. ذكريات في كلمات (بمناسبة مرور 45 سنة على بدء صدورها)

بقلم: محمدُّ سالم ابن جدُّ

ظهرت جريدة الشعب صباح الاثنين العشرين من جمادى الأولى سنة 1395هـ (30 من يونيو سنة 1975) كما هو مثبت في أول عدد لها، ولأن ترقيمها ابتدأ بالصفر اعتقد الكثير (ومنهم بعض القائمين عليها) أنها صدرت فاتح يوليو 1975 وهو تاريخ صدورها الثاني (الأول في الترقيم) وكانت في البداية لسان حزب الشعب الموريتاني الحاكم وقتذاك (ولعل الاسم جاء من هنا) ومع أن الحزب المذكور حل يوم 10 من يوليو 1978 فلم يتغير اسمها؛ بل استمر صدور طبعتيها (العربية والفرنسية) تحت اسم “الشعب” إلى أن غُيِّر اسم طبعتها الفرنسية في الثلث الأخير من يوليو 1991 فأصبح HORIZONS (آفاق) بينما واصلت طبعتها العربية الصدور باسم الشعب، ودام صدورها من انطلاقها إلى اليوم، باستثناء انقطاع للطبعة العربية فويق العامين (من 30 /3/ 1981 إلى 05 /5/ 1983). ومرت بمراحل مختلفة راكمت خلالها خبرة وتجربة تناسبان أقدم صحيفة موريتانية مستمرة.
كنت مراهقا نهما للقراءة (في عامي الـ12) عند بدء صدورها، وكانت ثمان صفحات (وستا أحيانا) ولم تكن كتابتها ولا صورها بالجودة والوضوح المطلوبين، ومع هذا أثبتت نفسها جريدة رسمية للدولة الناشئة، وكان سعر نسختها في البداية 10 أواق (قديمة طبعا) وهو ما يتيح اقتناءها لأمثالي.
وبما أنها كانت مدخلي إلى الإعلام المكتوب فلي وقفات معها من مواقع مختلفة: قارئا لها، ثم صحفيا متعاونا معها، ثم متابعا لها، ثم كاتبا فيها كَرَّة أخرى.

من هنا كانت البداية
كانت “الشعب” أنيسي سنوات أمضيتها بالعاصمة الاقتصادية، ومن هناك كان أول ظهور لاسمي على صفحاتها، وللأمر قصة:
كتبت أواخر سنة 1984 مقالا قصيرا عن بعض المآخذ المجتمعية، وبعثت به بريديا إلى جريدة الشعب، وفي 24 من دجمبر (فيما أظن) ظهر مقالي موقعا باسم أحد محرريها الكرام آنذاك، وإن تكرم بذكر اسمي عَرَضًا في كلمات أضافها إليه باعتباري شكوت إليه موضوع المقال، مع أني لم أنل شرف التعرف عليه إلا بعد 8 سنوات من تاريخه!
في صيف عام 1991 عدت إلى الإعلام المسموع معدا ومقدما للمواد الثقافية، بناء على تجربة سابقة، وبدأت التعامل مع صنوه المكتوب دون تجربة ولا تَدَرُّب، وكان من ضمن هذا التعامل أن عملت متعاونا مع الطبعة العربية لجريدة الشعب (ما زلت أحتفظ ببطاقتها المهنية وبعض ما أنجزته لها) فأجريت لها مقابلات وتحقيقات وأعمالا صحفية مختلفة، منها سلسلة تحقيقات ميدانية عن بعض الواحات وبعض المحاظر، لقيت خلالها أفذاذ العلماء وطارحتهم كبريات النوازل والقضايا؛ كعلاقة المحظرة بالدولة (وكانت ضعيفة آنذاك) وكالحكم الديمقراطي، وعلاقة العقيدة الإسلامية بمنطق أرسطو، وغصب الأرض في المدن (الگزره) وبعض الفروع غير المؤصلة في النصوص المعتمدة محظريا.. إلخ. ومن أهم ما أذكره ما يمكن اعتباره الحلقة المرئية الأولى من برنامج “الاتجاه المعاكس” قبل وجود قناة الجزيرة بسنوات.
لم يُرَقْ كوب ماء في الحلقتين اللتين شرفت بإنتاجهما، ولم تصدر كلمة نابية، وربحت صديقين عظيمين، وربح كل منهما الآخر، لأني أصلحت ذات بينهما بالعمل ذاته!
اختلف رأي شخصيتين علميتين في أمر علمي، فكانت صفحات “الشعب” مسرحا لسجالهما؛ وذات يوم طلب مني مدير الجريدة الأستاذ محمد الحافظ ولد محم (الذي أحييه بالمناسبة وأثني عليه) القضاء على هذه الحال بالطريقة التي أراها، دون أدنى اقتراح في هذا الصدد.
لم يسبق أن لقيت أيا من الرجلين من قبل، فكانت الخطوةُ الأولى لقاءهما (كل في مكتبه) ثم ارتأيت أن أضع نفسي مؤقتا موضع الخصم لهما فأفترض لكل عكس وجهة نظره ليبرهن على ما ذهب إليه، وبعد جهد تم ذلك بنجاح، ونشر في حلقتين صدرت أولاهما صباح الاثنين الثالث من صفر 1413 هـ (03 /8/ 1992م(.
في الحلقتين قال كل من الرجلين ما أراد، ورد كل على الآخر، ونُشِر الناتج بأمانة، وجاء معا فلم يبق محل للرد، فطابت نفس كل منهما (طيب الله لنا ولهما الحال والمآل، ورحم الراحل وعمر الحي معافى) وكان هذا سببا في صداقة وطيدة بينهما من جهة، وبيني وبين كليهما من جهة أخرى.
كنت ضمن مجموعة من الشباب، منهم الزملاء يسلم بن محمد أحمد (رحمه الله) وأحمدُ بن محمدٍ (أحمد عبد الرحمن) المدير الحالي للجريدة، وأحمد سالم بن المختار السالم مديرها الأسبق ونقيب الصحفيين السابق، ومحمد بن الواثق، ومحمد بن عبد الله السالم.. والزميلات حواء بنت ميلود، وآمنة جارا، ومريم بنت المنجي، وأم المؤمنين بنت الصالح، وخديجة بنت لمونك، ولاله بنت محمد محمود .. وآخرون وأُخَرُ. (حفظ الله الجميع).
مما أذكره أن فنيا في وكالة الأنباء كان يقرأ الخبر كاملا من تتالي الثقوب وتوزيعها في شريط الإبراق كما نقرأ الكتابة! ولا أدري ما فعل الله به.

“ذكريات عَبَرَتْ”
1. في صدر يوليو 1992 أجريتُ مقابلة لجريدة “الشعب” مع زيد صياد الملقب “شمشون العرب” الذي كان قد ظهر في بلادنا منذ حوالي ثلاث سنوات (1989).
كان الرجل بشوشا ودودا ويضرب يده في يدي كلما ضحك على عادة الموريتانيين مع أصدقائهم، فانتابني شعور هزلي بالخوف على يدي أن يتلفها ضربه كما يفعل بالحجارة والفولاذ ونحوهما من الأجسام الصلبة.
2. في إبريل 1993 أجريت تحقيقا عن بعض الثغرات الصحية في المؤسسات الاستشفائية، كان النموذج الأبرز فيه شابا يتعاطي علاج السل الرئوي بإحدى المؤسسات الصحية فأصيب بعوز المناعة (الإيدز/ السيدا) جراء تلوث إبر الحقن. وفي لقائي معه وقعتُ في حرج شديد حين مد يده إلي مبتسما! لم تَجِدْ غريزة حب الحياة محلا أمام الشعور الذي انتابني فصافحته بعطف صادق واطمئنان ظاهري، وسَرّيتُ عنه طلبا لرفع معنوياته، وواصلت عملي، ثم ذهبت السكرة وجاءت الفكرة.
ما ذا جنيت على نفسي؟ كيف صافحت مريضا لا شك أن جسمه ينضح بالمجهريات المميتة؟ وكيف لا أصافحه؟ هل أستطيع الإعراض عنه وتجاهل يده الممدودة نحوي من بين أمواج الآلام، وابتسامته الشاحبة بين فكي دائه العضال؟ وتجاذبتني الأفكار على هذا النحو.. ومع علمي بضعف احتمال عدوى مرضه بالمصافحة دخلت الحمام فغسلت يمناي إلى المرفق بماء جافيل باستيعاب وإتقان، إلا أن هذا لم يطمئني عليها فأمضيت يومي وليلة بعده لا ألمس بها بدني ولا أصافح بها إلا من وراء حجاب.
يومئذ تعرضت للخطر جبرا لخاطر الشاب الذي ربما لم تطل حياته بعدي، فوقاني الله غائلة فعلي، وها أنا أكتب عن ذلك بعد حوالي 30 سنة، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
3. مرة تأخرت التعويضات شهرين أو ثلاثة، ثم زفت البشرى بأن النقود قادمة وأن كل ذي حق سينال حقه يوم كذا. وفي اليوم الموعود جئت إلى مقر المؤسسة فوقفت في طابور طويل، وجاءت زميلة فآثرتها بمكاني وتأخرت، وفعلت الشيء نفسه مع اثنتين أخريين أو ثلاث.
دارت عجلة الحساب بعد ارتفاع النهار، وواصل الطابور زحفه ببطء إلى أن وصلتُ إلى شباك المحاسب حوالي الثانية ظهرا، وحين أطللت عليه (رحمه الله) نظر إلي مبتسما وقال: نفدت النقود الآن، عودوا غدا.. وأغلق النافذة الصغيرة.
لم أدر أأعجب من سوء حظي أم من جريان الأقدار؛ فكل اللواتي آثرتهن نلن حقوقهن، بينما استمررت في التأخر لعدم نصيب لي – في نفس الأمر- في نقود ذلك اليوم!
تحسست جيبي فإذا فيه 20 أوقية لا غير. مبلغ كاف لإيصالي إلى حيث أريد بأسعار تلك الأيام. صليت الظهر وخرجت متجها إلى الشارع الذي تسلكه وسائل النقل الحضري فوجدت عليه حوالي خمس زميلات من بينهن اللاتي ذكرت شأني معهن مستعدات للركوب إلى وجهتي بالذات! خطر في نفسي العدول إلى ناحية أخرى وتركهن وشأنهن تجنبا للحرج؛ خصوصا وأنهن نلن النقد منذ قليل، لكن لم أرض ذلك، وإنما وقفت معهن في عين المكان.
ركبنا باصا فنزلت الأولى فأشعرت المحصل بأن أجرة ركوبها عليَّ، وكذلك فعلت مع البواقي، اللواتي لم أستطع النزول قبلهن حتى لا يبين المستور، وحين خرجت أخراهن علمت أني خرجت من الأزمة الصغرى بأزمة كبرى، فبقيت مفكرا في مخرج بينما واصل الباص سيره (ولم يكن أكثر محصلي الباصات في تلك الأيام مهذبين) حتى استدار عند وقفة السبخة والميناء تأهبا للعودة شمالا. وقف أمام متجر فنزلت بسرعة وولجت المتجر – والمحصل معي كظلي- ففككت ساعة يدي وطلبت ممن به المبلغ المستحق علي وتركها لديه ريثما أعيده إليه ففعل – جزاه الله بخير- وسلمت الشاب حقه فاستطعت الذهاب إلى حال سبيلي، وأنا كمن استيقظ من كابوس.

من توابل العمل الصحفي
تُطبع الصحف الآن وتصمم وتنفذ في مكاتبها على حواسيب مزودة بالبرامج المناسبة، فتوضع العناوين والصور والتعليقات والاستخراجات في مواضعها وبأحجامها وأشكالها المَرْضية، فلا تصل إلى المطبعة إلا وهي جاهزة للتحويل إلى صفائح الزنك فالسحب.
أما في الماضي فكان الأمر بعيدا من هذا.. كانت المادة تطبع حروفا من رصاص يعاد صهره عند الخطأ – وبعد الاستخدام- ليتاح استخدامه من جديد. ولأن هذه الطريقة كانت تنتج مادة بحجم متقارب فقد كانت الصحف تلجأ إلى خطاط (إنسان) لكتابة العناوين. واستمر الأمر كذلك في موريتانيا حتى بعد حوسبة الصحف بحوالي عامين، حيث كانت الأعمدة تقص وتلصق مقلوبة على موائد معدة للمهمة وتترك الفراغات للصور، ولكن بعد تركيب التعليقات التي تصاحبها في أماكنها المفروضة.
ومن الآثار الجانبية لما وصفته أن توضع صورة أحيانا في غير موضعها فيبدو تنافرها مع التعليق مضحكا!
أذكر أن “الشعب” صدرت مرة وفي إحدى صفحاتها صورة لأحد زملائنا زاغت عن مكانها المناسب إلى خبر عن جهاز تبريد يعمل بحرارة الشمس، وتحت صورة صاحبنا تعليق يفيد بأنه الجهاز المذكور!
غضب الرجل وسحب صوره من أرشيف الجريدة، ومع ذلك صدرت في محل صورته – عند الاقتضاء- صورة للسيدة فاطمة بنت عبد الوهاب (كان لها ركن في الجريدة آنذاك) وهو ما اعتبره اعتذارا ضمنيا عما سلف.
وفي مقابلتي مع “شمشون العرب” التي سبق ذكرها صاحبت النص إلى المطبعة صورتان: إحداهما لي، والأخرى للرجل تحت عجلة شاحنة. وكان المفروض أن صورتي جانبية، وأن صورة الموضوع الأساسية هي صورة المعني في الوضع المثير، لكن المخرج والمركبين وضعوا الصورة الأساسية في ختام المقابلة مع تعليق صغير؛ بينما وضعوا صورتي إزاء العنوان الذي كان جملة من كلام “شمشون” في المقابلة، وزادوا الطين بلة ففصلوا بينها وبين اسمي (باعتباري من أجرى المقابلة). لذا ضللوا بعض المتلقين (دون قصد) فاعتقدوا ان “شمشوم (كما يسمونه) اطفل من البيظان!”.
.. إلى غير هذا من ذكريات مهنية صدر بعضها في كتاب ورقي بعنوان “على رصيف الحياة.. ذكريات مبعثرة”

“هل مرايا دمشق تعرف وجهي”؟!
كل شيء تغير! غرفة كبيرة بها صفوف الحواسيب في مكان مكتب رئيس التحرير! ليس هنا بابا الغوث في جلسة تأمل صامت، ولن أجد منه ومضة دعابة على صرير قلم حبر سائل..
محمد الحافظ بن محم.. الرجل الطيب الدمث الخلق الذي لا يشعر التابع معه بأنه تابع، لم يعد مديرا للجريدة، وانتقل مكتب المدير من مكانه، وتغيرت وجهة بابه، وحراك المتعاونين النشط غاب، كما غاب إيقاع آلات الإبراق، فحل محلهما وميض الحواسيب وعملها الجامد الأخرس. وقد اقتحم الشيب شعر زميلي العزيز “أحمد عبد الرحمن” (مدير الجريدة الحالي) بعد ما كان فاحما جعدا..
حتى كوخ الصفائح الخشبية (كونتر ابلاك) الأزرق المنتبذ مكانا قصيا في الركن الجنوبي الغربي؛ والذي كنا نتخذه مقهى ومنتدى، لا شاي به اليوم ولا “زريق” ولا طعام؛ بل ولا وجود له أصلا! ففي مكانه تنتصب نخلة ترتوي بما اختزنه المكان من زلال جلساء الماضي، وتعبق بطيب أنفاسهم، وتتسمد بمواطئهم!
بعد انقطاع تقلبتُ خلاله بين دروب الإعلام والتعليم والبحث والتأليف، جئت المقر أواخر العام الماضي في مهمة بحثية، فما وجدت أحدا ممن أعرفهم! تفرقوا أيدي سبأ؛ فمنهم من قضى نحبه مأسوفا عليه، ومنهم من ينتظر؛ لكن في غير هذا المكان وهذا العمل، ومنهم من بقي هنا (وهو الأقل) لكني لم أصادفه.
أيامي هنا لم أكن أتصور أن مدير تحرير جريدة البيان (وكنت أكتب فيها أيضا) قد يصير المدير العام للوكالة الموريتانية للأنباء! ولا أستطيع اليوم تصديق ذلك وهو أمر واقع!
قاعة الأرشيف فقدت فوضاها الحلوة وغبارها الناعم.. مجلدات مرتبة ورقيا ومحوسبة من أول عدد..
لي هنا آثار متفرقة مخلتفة الألوان والطعوم، ترقد بهدوء وكأن شيئا لم يكن!
بطاقة صغيرة صادرة عن مدير سابق للجريدة قبل قرابة 30 سنة كانت مفتاح مهمتي، فدخلت بسهولة، وعاملني الزملاء الشباب بلطف واحترام وسهلوا مهمتي مشكورين، فأنجزت في دقائق ما قدَّرْتُ إنجازه في ساعتين على الأقل، وإن لم تفتني النظرة الكهفية التي يراني بها بعضهم وهم يتعاورون البطاقة التي حملتها فترة من حياتي ثم احتفظت بها للذكرى، وفي المثل “ما ايلم حد شي ما الحگ اعليه” ويقال إن المثل “لا يتغير ولا يكون كذبا”.

.. وأخيرا
بعد خمس وأربعين سنة من بدء صدور “الشعب” وثمان وعشرين من بدء عملي بها، أكتب اليوم متذكرا ومحييا ومهنئا، وقد وقعتُ في أسرها مرة أخرى فصرت أنتج لها ركنا لغويا يعالج أساسا هفوات الإعلاميين، وشاء الله أن تتزامن انطلاقته مع اليوم العالمي للغة العربية (18 من دجمبر) الماضي.
وحين أنظر إلى الماضي يحق لي أن أستعير من الشاعر سعيد العيسى قوله:
في فتية كالنجوم الزهر طالعة ** رفُّوا على مفرق الدنيا رياحينا
جروا بساح العلى شوطا فما وهنوا ** لكنه القدر المحتوم لاقِينا.
فتحية لكل الفرسان، من الشيخين محمد يحظيه بن العاقب والخليل النحوي إلى العزيزين محمد فال “ولد عمير” و”أحمد عبد الرحمن” مرورا بزملاء الحقبتين وما بينهما من أجيال.
حفظ الله الجميع ووفقه.
وإلى الأمام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى