إذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا

د.البكاي ولد عبد المالك

السيادة في جميع الدول واحدة لا تقبل التجزئة، وإن كانت لا تتعارض مع القانون والحق. لذلك كان التركيز لدى الرعيل الأول من فلاسفة السياسة في الحقبة الحديثة على ما اصطلح على تسميته فيما بعد بجوهرانية الدولة la substantialité de l’Etat أو “كينونة الدولة” التي ليست مجرد كلمة أو شعار نعلنه وندافع عنه تارة، وندوسه بأقدامنا تارة أخرى. فإن لم يكن الباعث في التعديلات الدستورية التي حدثت طوعا أو كرها في نهاية حقبة الرئيس المنصرف هو سيادة الدولة واحترام تاريخها وكرامة شعبها فلم إضافة خطوط حمراء إلى علمنا؟ ولم التخطيط الواعي لإعادة كتابة التاريخ؟
إن المشكلة التي كثيرا ما تحدث – خصوصا في الأنظمة غير الديمقراطية – هي الخلط بين السيادة وحقوق السلطة ذات السيادة فتستعملان كمترادفتين، في حين يشير المفهوم الصحيح للسيادة إلى شيء يتجاوز في الآن نفسه الأشخاص الطبيعيين من الأفراد العاديين (المواطنين) والأشخاص الاصطناعيين (personnes artificielles) المعنويين – ممن لديهم مقاليد الأمور- إلى الجسم السياسي برمته في كافة جوانبه الاجتماعية والثقافية والسياسية وحتى الرمزية، وإلى شروط وجوده الطبيعية والجغرافية، والتي يعد المساس بها اعتداءً على المجموعة الوطنية بأسرها واستخفافا بالعقد الرابط بينها.
وبقدرما تستعمل “السيادة” في سياقات معينة لتبرير ممارسات الأنظمة التسلطية وانتهاك حقوق الأفراد والجماعات، تستعمل في سياقات أخرى للطعن في سيادة الدولة نفسها واستقلالها وكرامة شعبها سواء من طرف مواطنيها أو من طرف مواطنين أجانب، وهو ما يبدو أشد إيلاما ومجلبة للعار.
لا أحد يحق له، في ظل دولة القانون، أن يمنع مواطنا من ممارسة حقوقه التي يكفلها الدستور له وفي مقدمتها الحريات الأساسية مثل حق التصويت، وحرية التعبير والتجمع، وحرية التفكير والوعي، والحق في حماية الشخص ضد الأضرار البدنية والنفسية، والحق في الملكية الخاصة (القانونية)، والحماية ضد الاعتقال والسجن التعسفي …إلخ، والتي يؤدي انتهاكها إلى إضرار بالغ بالعقد الاجتماعي الذي يربط المواطن بالدولة، وبالشرط الأهم لوجود الدولة نفسها كراعية للحقوق والحريات من جهة، وضامنة للسلم في الداخل والأمن في الخارج من جهة أخرى: وتانك هما وظيفتاها الأساسيتان في العرف الفلسفي السياسي.
لكن في المقابل لا أحد، مواطنا كان أو أجنبيا، شخصا عاديا أو اعتباريا، يجوز له انتهاك سيادة الدولة وقوانينها، مهما كانت ظالمة.
كلنا نعرف القصة التي حدثت في أولى ديمقراطيات العالم مع الفيلسوف سقراط الذي ألحقت به تهمة الفساد، إفساد عقول الشباب ظلما وعدوانا من طرف خصومه السياسيين خصوصا من السفسطائيين الذين أفسد عليهم صنعتم وهي تعليم الخطابة بمبالغ مالية طائلة متهما إياهم بالتربح من العلم وهو الذي كان يعلم الحكمة دون مقابل!! سقراط رغم إحساسه العميق بالظلم المسلط عليه من طرف خصومه رفض الهروب واللجوء إلى بلد أجنبي بعد أن تيسرت له مرارا سبل القيام بذلك قائلا: إذا كانت قوانين بلدي ظالمة فلن أكون أنا الذي أعلمكم يوميا احترام القوانين أول من يخالفها!! واختار أن يتجرع السم قانعا راضيا على أن يخون قوانين بلده أو يطعن سيادته.
نعم مثالية سقراط – وهي القدوة والنهج المتبع في العالم الديمقراطي المعاصر- قد تبدو لنا اليوم في عصر انتشار المنفعة وحب الذات سلوكا أخلاقيا مبالغا فيه، لا مراء في ذلك.
لكن ألا نثق في عدالة نحن من وضع أسسها بسلبياتها وإيجابياتها؟ وفي قضاة نحن من وضعهم في الأماكن التي يوجدون فيها الآن طيلة أكثر من عقد من الزمن؟ وفي قوانين نحن من سنها ودافع عنها ونلجأ إلى الغرباء عوضا عنهم؟! هذا السلوك قد يكون مقبولا من مواطن عادي لا يدرك حقيقة السيادة وأولية قوانين الدولة وسموها لكنه في الحقيقة مستهجن وغير مقبول من جانب من رئيس الدولة وراعي دستورها وحامي قوانينها في وقت غير قصير من عمرها.
ومع ذلك لا يعد هذا الأمر من الناحية القانونية انتهاكا لسيادة الدولة لأنه يدخل في دائرة الحقوق المكفولة لكل مواطن بحكم الدستور، لكنه انتهاك أخلاقي لها من طرف شخص كان- في العهد القريب- على هرم الجهاز القضائي!
فإذا كان الباعث على القيام بتلك الخطوة هو الخوف من تجاوزات القضاء أو انعدام الثقة في مؤسساته، فقد دفع الكثيرون ذلك الثمن بسبب الرئيس السابق، فلِمَ لا يكون هو الآن -إن كان عادلا حقا- مستعدا لدفع الثمن ذاته؟! وإذا كان الباعث عليها هو الاستقواء بالأجنبي وطعن سيادة الدولة، فهذا هو ما كان – حتى وقت قريب – يُعاب على من يقوم به من دعاة حقوقيين وخصوم سياسيين مشردين في الشتات، فلطالما اعتُبر الاستقواء بالأجنبي – في أي مجال سياسي أو حقوقي- نظيرا للخيانة. في كلتا الحالتين يبدو لنا اللجوء إلى دفاع أجنبي غير مسؤول وغير منصف وهذا هو أقل ما يمكن أن يقال عنه.
أعتقد أن كلا منا مهما كان موقعه يجب أن يكون لديه نفس الاستعداد للحصول على نفس القسط من العدالة ومن الحقوق سواءً كال أو اكتال وإلا وقعنا في شبهة الكيل بمكيالين:
إذا لم يكن من الموت بدٌ === فمن العجز أن تكون جبانا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى