هوس العودة L’obsession du retour(ح12)

…. في الواقع كنت أعيش فيما يشبه الصراع الأبدي بين فضولي الجامح وشوقي المتحكم، حين أقوم بجولة في المدينة أشعر بأنني أغرق في كتلة بشرية أتأملها .

في تلك الفترة كنت أجدني أرى مجددا، بأعين منبهرة تائهة حالمة، ألف صورة للبلد تتصادم مبعثرة، في رأسي مع واقع المغرب، أحيانا يمر طلبة سود قريبا مني بأصوات جهورية وحركات تنم عن الارتخاء وكأنهم في بلادهم، بينما كنت أشعر أنا كما لو كنت دخيلا، مقتنع بغباء  أن الناس منتبهون لوجودي. لم يكن الأمر كذلك بطبيعة الحال وانتهى بي المطاف إلى فهم ذلك لقد تعود سكان الرباط، بالتأكيد منذ سنوات نعلى رؤية السود في شوارع مدينتهم، وكان أولئك السود يأتون للدراسة أو التجارة عندهم. كان الطلاب يلتقون عند الوكالة بعضهم ليسجل نفسه (الجدد) وبعضهم لتسوية مشاكل صغيرة تتعلق بالمنحة، أو إعادة التوجيه، أو التحويل. هناك تسمع كل اللغات الإفريقية فكان الطلبة من نفس البلد، أو نفس المنطقة،ـ أو نفس العرق يتعرفون على بعضهم البعض من خلال لغتهم، أو ملامحهم أو نادرا ملابسهم. تشكلت مجموعات صغيرة لتبادل أطراف الحديث غير بعيد من بوابة المدخل، كان الطلبة الجدد هم الأكثر ؟ متشوقين للحان بمؤسساتهم في مكان ما من الرباط أو في محافظات المملكة الأخرى.

علمت أخيرا، أنني لن أطيل المكث في الرباط، ورغم أن معهدي (معهد الحسن الثاني الزراعي والبيطري) يوجد بها، إلا أنه كان علي أن أبدأ بتدريب لمدة ثلاثة أشهر في الريف المغربي، وقد اندهشت دراستي ستبدأ بالتطبيق بما أجهل تماما، على غرار تكويني الأساسي، لكن كان لابد من الذهاب على شمال المغرب، ولم يكن يزعجني أن أغادر المدينة الصاخبة.

لم أذهب وحدي إلى ذلك الريف كنت ضمن مجموعة صغيرة من الطلبة الأجانب الآخرين، اثنان من مالي، واحد من زائير، واحد من غينيا واحدة من جزر القمر، وحدد تاريخ المغارة وعند الموعد تواجدنا أمام بوابة مدخل المعهد، حيث أقلتنا سيارة باتجاه مكان التدريب،زرعة تطبيقية تابعة للمعهد قلت في نفسي ” سألتقي  البادية!”. لقد كنت أشعر كثيرا بأني غريق في الرباط.. انتظرت أخبار أصدقائي، فمنذ وصولي كتبت عشر رسائل، على الأقل لأروي لهم قصة وصولي وبالخصوص لأعطيهم العنوان الذي تمكنهم مراسلتي عليه .. طمأنتهم على وضعي، وبالفعل لم أواجه أية مشكلة حتى اليوم علي الآن أن أبلغهم بذهابي إلى البادية وبعنواني الجديد ، خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.

 

اكتوبر 86

على جانبي الطريق المشمس المؤدي إلى القنيطرة، يقيم باعة الفواكه والخضروات معروضاتهم، وعند أقدامهم خففت سلال وحاويات ملأ بمنتجاتهم مختلفة الأنواع والألوان في الجانب الأيسر آية رائعة تصطف أشجارها مد البصر أبعد من مائة متر، وأية أشجار ! لم أر مثل هذه الكثافة والخضرة قط، من حين لآخر تظهر مساحات زرعها منتجو أزهار متمرسون، بشغف بديهي، أو بدافع المنافسة التجارية على أفضل منتوج، تنشقت الهواء عبر النافذة المفتوحة. لابد أن الشاطئ غير بعيد، خلف تلك النباتات الرائعة.

بدا رفقائي منبهرين مثلي بالطبيعة المحيطة، أما السائق فكان يراقب الطريق لم يكن أي من الطلبة؛ باستثنائي أنا يفهم أي كلمة من اللغة العربية، وهذا ما جعلني اضطر للتحدث مع سائقنا من باب ترطيب الجو، أو ببساطة، كسر جدار الصمت الذي ساد بين مجموعة الأجانب والمغربي.

وقد ساعدتني معرفتي المتواضعة بالحسانية (لهجة البيظان القريبة من العربية) كثيرا، وقد تفاجأ السائق قليلا، حين سمعني أتحدث لغته وتساءل لماذا لم يفعل الآخرون مثلي، مع أنني كنت أبذل جهدا موفقا كافيا.

تساءل: “أعلاش؟”.

  • لأن الناس في بلادهم لا يتكلمون العربية ، أو يتكلمونها بشكل نادر جدا؛ أما في بلدي فأغلب الناس يستخدمونها، ولذا أفهم وأتحدث هذه اللغة..
  • من أي بلد ـأنت؟
  • من موريتانيا؟ أنا من موريتانيا..
  • آه.. موريتانيا؟ لكن… المغاربة كيف كيف!!
  • نعم .. أ.. لا.. هناك بعض السكان يتحدثون لغات أخرى، مثلي أنا. أنا بولاري ولغتي الأم هي البولارية.

لم يفهم السائق أيا من شروحي واكتفى بعبارة “آه، نعم..” فلابد أنه أعتقد أننا جئنا من نفس البلد، وبعد صمت قصير، خلص إلى القول: “إذن مثل ما هو موجود في المغرب ! عندنا البربر..

في تلك الأثناء، دخلت السيارة إلى ما يفترض أنه مدينة القنيطرة، وهو ما أكده السائق، بعد لحظة من ذلك، الآن علينا المرور بمحاذاة الشاطئ. باتجاه طنجة، كانت الحضرة إلى الشمال قليلا من هناك، وبعد بضع عشرات الكيلومترات غادرت الاندر وقد الطريق وانطلقت على طريق صحراوي تظهر على لوحة على حافته اسم معهدنا وموضوع رحلتنا: حطيرة التطبيق بالغرب.

خرج المسير من مكتبه وتعارفنا بسرعة، فيما عاد سائقنا أدراجه بعد أن ودعنا بلباقة، عرفونا على البناية التي سنقيم فيها خلال الأشهر القادمة، وكانت عبارة عن منزل من طابق واحد، منزوي إلى حد ما عن المكاتب، على خلاف منظر الأشجار والمساحات المرائعة، كانت هناك جزئية غريبة تمثلت في مقبرة على بعد بضعة أمتار من المدخل.

بعد أن أخذنا مواقعنا السكنية، بدأت رحلتنا إلى القرية القريبة لتأمين غدائنا وقبل الانطلاق مع المهندس في سيارته، قمت بجمع مساهمات لدى رفاقي، وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين سمعت الزائري يقول إن لديه، هو، خبزه، هل كان ينوي أن يعيش وحيدا بيننا، حتى نهاية فترة التدريب؟ لقد قبل جميع المنحدرين من بلدان غرب إفريقيا، وحتى الطالبة القمرية، قبلوا بطبيعة الحال فكرة الطبخ والأكل في مجموعة ، رغم أننالا نتقاسم نفس العادات الغذائية.

في الصباح الباكر من اليوم الموالي، اتصلنا بالفنيين المسؤولين عن تأطيرنا كنت متلفها بمعرفة ما ينتظرنا من الغريب أن يبدأ المرء دراساته العليا بتدريب تطبيقي، تساءلت في نفسي.. أي تطبيق بالنسبة لتلميذ خارج لتوه من الثانوية؟؛ متسائلا، على وجه الخصوص ، حول موقف العمال، فهؤلاء بالتأكيد لم يروا يوما هذا العدد الكبير من الشباب السود دفعة واحدة في حياتهم اليومية، حتى إن التساؤل وارد جدا، عما إذا كانوا رأو قط، إفريقيا واحدا، بنظرة فاحصة، تولدت لدي قناعة بأن مجموعتنا تشكل محور اهتمامهم، وبأن بعضهم من خلال انبهارهم الظاهر، لم يروا قط في حياتهم أي زنجي فريقي.

كانت الحظيرة كبيرة جدا وتغطي مساحة شاسعة تحوي قرية بأكملها وتلامس حدود قرية اخرى، على بعد أكثر من كيلومتر من هناك، مئات من الهكتارات كانت موزعة بين زراعة الحمضيات والحبوب، وزراعات أخرى مثل البطاطا، وقصب السكر أو… كانت بعض النباتات مجهولة بالنسبة لنا، ومن حسن حظي كانت تربية الماشية تحتل نصيبا معتبرا في الحظيرة من خلال اسطبلات وقاعة واسعة للعلب وتوجد شاحنة صهريج تأتي لفصل الحليب كل مساء كان ذلك سر وجود أجدادي وأهلي ويمكنني اعتبار نفسي الأوفر حظا بين المجموعة لأشعر بالارتياح لذلك، وبفضل ما تعلمته من أسرتي، وكل التقاليد الرعوية للبولار لم يعد ينقصني غير بعض المصطلحات العلمية لأخوض في مجال البيطرة.

العديد من الفنين يتوزعون مختلف مهام تسيير الحظيرة تحت إدارة مهندس زراعي متخصص تقنيات حظائر الحيوانات ثم فصل مجموعتنا إلى فريقين للمال، بالتناوب في مختلف قطاعات هذه المنظمة، كانت العملية تقضي بالمشاركة في جميع الأعمال التطبيقية، في المدرجات والمخابر وقاعات الدرس الأخرى، تساءلت في نفسي “هل العلوم العضوية معقدة إلى هذه الدرجة؟ “.

داخل الحظيرة كانت الفرنسية هي اللغة التي يتواصل بها الطلبة مع الفنيين، أما التخاطب مع العمال، وهم في الغالب أميون أو غير دارسين بما فيه الكفاية، فكان أصعب وقد كانت معرفتي بالحسانية عامل مساعدة كبيرة لي من جديد؛ لدرجة لم أن أتخيلها قبل ذلك بأسابيع فقط، لم أتصور أبدا، من قبل، أن التحدث بالعربية قد يخدمني يوما خارج موريتانيا.

من الغريب أن العمال يسألوننا عن كل شيء وعن لاشي ء ماذا كنا نفعل في بلداننا التي جئنا منها؟ كيف جئنا؟ ما الذي جئنا نبحث عنه؟.. أسئلة تكشف أحيانا عن انعدام تام للمعلومات حول ما يري في الخارج؛ وحتى في بلدهم هم في الدار البيضاء أو أغادير مثلا، لقد سمعوا عن هاتين المدينتين الكبيرتين وكان ذلك كل شيء تقريبا، كانوا جميعا ينحدرون من القرى المجاورة ويعملون غالبا، كأجراء لليوم، إلا أن بعضهم لأقدم أو الأكثر خبرة كانوا يوصفون بأنهم دائمون .

منذ الساعات الأولى من كل يوم، يتجمع المترشحون – العمال قرب مكتب الاكتتاب ينتظرون أن يفتح أبوابه على أمل اكتتابه لذلك اليوم أو الأسبوع. وعندما يكون هناك الكثير من العمل في الحظيرة بمناسبة نزع الأعشاب أو الحصاد يتم اكتتابهم جميعا تقريبا؛ وإلا فإن الكثيرين يعودون إلى ديارهم للعمل في حقولهم أو انتظار اليم الموالي.

عند منتصف النهار، يعود الطلبة إلى القسم الداخلي للطبخ وتناول وجبة سريعة قبل العودة إلى العمل مع بداية الظهيرة، كنا نطبخ بالتناوب وبذلك انت النكهات من مختلف البلدان في الموعد، با يسعد أكثرنا نهما، وفضولا وفي الواقعكنا جميعا نهمين وفضوليين….يتواصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى