هوس العودة L’obsession du retour(ح15)

…. إلى ديجول، وهي قرية تبعد ثمانية عشر كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من كيهيدي، على ضفة نهر السنغال، رسمت خريطة ذاتية عن المنطقة فقد كانت الأنشطة الزراعية الأساسية تشمل زراعة الأرز والخضروات استفسار المعلومات، أساسا لدى التعاونيات النسوية، مرت الأيام الخمسة عشرة سريعا وعدت، دون انتظار إلى ألاك حيث استأنفت دوامة الذهاب والعودة بين البيوت والقرى رفقة زملائي في العمر.

غير أن أيام عطلتي أشرفت على النهاية، وذلك يعلقني من جديد، أكثر من السنة السابقة، أن أغادر الأصدقاء في ألاك، وتخومها الجميلة. لقد زادت غربتي الأولى من قوة حبي وتعلقي بأرضي، خاصة وأنني أمضيت سنة صعبة إلى حد ما، في المغرب ثم إن على قضاء ما لا يقل عن خمس سنوات، أيضا بهذه الوتيرة! انتظار بضعة أيام نادرة، على مدى أشهر وأشهر، للقاء هؤلاء الأصقداء من عهد الطفولة! مع العلم أننا قد لا نعود إلى البلاد في كل مرة.. إنها مكلفة تلك الرحلات عشية ذهابي قررت توديع جميع الجيران والأقارب ليلا، حتى أكون متحررا في الصباح من ذلك الواجب البروتوكولي الطويل، كان الأمر صعبا.

جاء كل الأصدقاء إلى البيت في تلك الليلة. كان الشباب يتجاذبون أطراف الحديث، وحاولت أن أفعل مثلهم، لكن ذهني كان شاردا بعيدا. كنت أفكر في الرحلة، في الغربة في بعد الشقة خلال الأشهر القادمة. وقبل أن نفترق للنوم، اتفقنا على اللقاء من جديد في صبيحة اليوم الموالي، عندما يقوم مقام محطة النقل البري بألاك ساحة خالية قرب الطريق المعبد، قرب أول دار للداعية؛ ار مادين با.

في الصباح حين اكتملت حقيبتي لم يبق لي سوى مصافحة بعض الأيدي، ومثل السنة الماضية، كان لفطوري طعم آخر فلم أتناوله على الإطلاق، متى أعود؟ عند باب البيت، تلا والدي آيات من القرآن الكريم، كحماية من أجل أن تكون رحلتي سعيد، كانت كل الأنظار مصوبة نحونا لم تفوت ابنة عمي مريم روبي تلك المناسبة من جديد، حيث سكبت ماء عذبا على أثري، متشبثة متمنية لي إقامة طيبة في المغرب، وعودة سعيدة إلى الوطن. تتعني بعض الوقت حتى أصبح إناؤها فارغا تماما.

عند المحطة الطريقة الصغيرة، كان الأصدقاء متواجدين تماما ولم تكن المبادرة تنظر غيري أنا حتى وإن كان علي أن أمضي أياما أخرى في انواكشوط ريثما آخذ تذكرتي للطائرة. لكن على كل حال، تشبعت من موطني نوعا ما، وتمتعت بحمام من دفئ العائلة والقرية وقد أتاحت لي تلك الإقامة أن أدرك بإمعان صادق، مدى تعلقي بأصدقائي وبمختلف مستوياتنا العمرية.

في الطائرة، حيث هدأت لوعتي للمغادرة كل هؤلاء الناس الطيبين وكل تلك الأشياء الرائعة، حاولت جاهدا، التركيز من جديد على أهمية نجاح دراستي، هذه السنة ، لأسرتي ومجموعتي. هذه المرة على الأقل كانت لدي فكرة جيدة عما ينتظري حين أنزل من الطائرة، سأجد، بالتأكيد صعوبة أقل في التأقلم، بل لربما تولدت صداقات بمناسبة العودة ولقاء زملائي الطبلة ، رغم تلك الأحكام الجاهزة العديدة، وسيما أيضا لا يكون ذلك سوى وهم أن اعتقد أنه مع الزمن يبقى كل شيء.

 

من الشوق إلى الانشطار

السنة الجامعية 87 – 88

بدأت الأمور من جديد، بسرعة كما لو أنني لم أغادر المدرسة أصلا، نفس الأماكن نفس الرؤوس، لكن بعد أقل، إذ أقصى الاختيار المبكر للامتحانات  نصف الستمائة طالب في السنة الأولى. من جديد، المعركة ضد الذات ضد غياب الأنا والإحباط. في قاعة الدرس، في المدرجات، وحيدا على طاولة العمل، الدفاتر مرة أخرى وبالألواح الكتب، التمارين، وكأن ليس في الوجود أمر مهم غير ذلك. نفس العادات التي كانت قبل أسابيع.

– إذن صال، كيف وجدت العطلة؟

– مرت كالبرق! وقت لرؤية العائلة مجددا فقط وأنت.

نفس الشيء بالكاد تمكنت من محو الشوق وها هو يبدأ من جديد.

– تعرف يا انييريه، سيتعين علينا أن لتغلب على ذلك ومقاومة هذا الشعور، وإلا فلن نفعل شيئا مفيدا هذه السنة.

– معك حق، قد أفقد عقلي إن فكرت في ذلك أكثر من اللازم، وستبدولي السنة بلا نهاية.

كنت فرحا، في المقابلة بلقاء صديقي صال وبعض أبناء وطني الآخرين الذين كنت أسكن معهم منذ العودة من التدريب الأول، وسأظل أقيم معهم فقد أبلغونا بتغيير المسكن في الفصل الثاني، إلى السنة التحضيرية للدراسات العليا في الزراعة، وهي ملحقة بالمعهد، مكلفة باختيار نحو مائتين وخمسين تلميذا فتم توزيعهم بين المدارس الأربع الكبرى للزراعة في المملكة؛ المدرسة الوطنية للزراعة في مكناس، في المرتفعات الشمالية للأطلس؛ مدرسة الزراعات.. بأغادير (الجنوب الغربي)؛ المدرسة الوطنية لمهندسي الغابات بملا ضاحية الرباط؛ وبطبيعة الحال المعهد الزراعي والبيطري بالرباط نفسها.

ومع أنه يقع في أحياء أكدال حين يفترض أن تكون الحياة، بالتأكيد، مريحة بالنسبة لساكنيه، إلا أن الملحق لم يكن يوفر خدمات مطعمية للمقيمين فيه وكانت المعيشة بالنسبة لهم أقل سعادة، ولئن كانت هناك بعض مزايا تقاسم الغرفة مع بعض أبناء الوطن، إلا أن دورات الذهاب والعودة من وإلى المطعم كانت في بعض الأحيان، متعبة. لم يكن الأمر مريحا تماما، إذا كان لابد من التبضع في السوق بعد انتهاء الدروس، وفي عطل نهاية الأسبوع.

وفي المقابل، وحتى لو أن ذلك كان ثمرة للظروف القاهرة (آه لو كان بإمكاني إيجاد أصدقاء طفولتي معي في نفس الغرفة)، فقد كانت الحياة بين أبناء الوطن الواحد، في نفس الغرفة، قد سهل، كثيرا، من المهمة، حيث أتاح التحدث بنفس اللغة، وفوق ذلك، حول أخبار البلد.

علمت، من خلال ذلك،أن أحداثا خطيرة وقعت يوم 22 أكتوبر في انواكشوط – كان الحديث يجري عن محاولة انقلابية، تم إجهاضها في المهد وعن اعتقالات جديدة لزنوج موريتانيين في أوساط العسكريين، هذه المرة. أجرينا نقاشات ساخنة حول الموضوع، كانت مفعمة بالمشاعر؛ خاصة وأننا كنا؛ نحن الطلبة السود، خاضعين لعزلة يومية ثقيلة، بقدرما هي غير معلنة؛ تحشرنا في هامش المجتمع المحلي.

غير أن تأكيدا حدث آخر، متوقعا هذه المرة جاء سريعا.. جدا، حول انتباهنا عن مآسي الزنوج: سيتم تحويلنا اعتبارا من يناير سنتسأنف الدراسة في المعهد وسنغادر، أخيرا هذا الملحق لإفساح المجال لطلبة السنة الأولى الجدد الموجودين حاليا في مرحلة التدريب بالأرياف، وفي المعهد ستكون اثنين في كل غرفة وسيكون هناك مطعم لا أدوات الطهي بعد الآن! لا رحلات تبضع في الأسواق ضاعفت الدروس، بعد الآن!

كان صال هو من تقاسمت معه غرفتي الجديدة. كان خلوقا وطالبا ممتازا، ولم يكن لتلقمه من سوى تدينه الذي كان يطبقه بكل تواضع بروح من التعاون الأخوي. كنت تعرفت عليه في ثانوية بوكي. لقد أبعده انزواؤه الطبيعي عني لفترة طويلة. لكن ذات يوم، وفيما كنا عائدين من الثانوية، مع بعض الأصدقاء المشتركين، تولد لدي شعور بأننا سنلتقي مجددا يوما ما.. نحن الإثنان معا، في مكان بعيد جدا للدراسة. حدث ذلك وأضفت ذكرى توقعي بعدا سحريا على غرفتنا.

بدأنا نحتك بطلبة من مستويات أعلى ونكتشف جملة المهن التي يتيحها تكويننا كنا نحضر من حين لآخر، جلسات نقاش رسائل التخرج وكانت تلك النقاشات تصيد في اتجاه فرص استثمار الكفاءات المكسبة، في بلدنا المتخلف.

وعكسا لما كنت أخشاه، مرت فصول السنة بسرعة كبيرة، وبدأت فكرة البقاء في المغرب خلال العطلة القادمة، والتي كانت لا تحتمل بالنسبة لي تتجذر فيصبح أن الأشواق كانت حاضرة وكنا لا نزال نعيش نفس البعد عن المغاربة كنا نتدبر أمورنا بين أبناء نفس الوطن بالنسبة لكل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية. وكان القدماء الذين يعيشون عادة في المدينة، يساعدون كثيرا فوقهم الأكثر احتياجا كان من المحبط نوعا ما ملاحظة أن هؤلاء الذين يعيش بعضهم في الرباط منذ ست سنوات لا يحتكون بأي مغربي؛ وقد دفنت أوهامي بشأن الصداقة بين شباب كل البلدان. “الأفارقة” المعني الضيق للسود غير المغاربيين يعيشون فيما بينهم. ومن الانتماءات الفئوية الموريتانية تتكرس هنا؛ البيظان من جانب، والزنوج من جانب آخر. في القسم الداخلي كما في المدينة.

شكل امتحان السنة الثانية مرحلة حاسمة في تكويني فقد فتح لي النجاح في  أبواب المدرسة الوطنية للزراعة بمكناس، فقررت أخيرا، البقاء في المغرب في انتظار العودة المدرسية ودخول مؤسستي الجديدة. في السنة الماضية لم أذق طعم العطلة في الوطن إلا قليلا جدا في الحقيقة وعلى أية حال، سيكون من المسؤولية أكثر أن اقتصر نفقات تلك التنقلات وأبعث المال إلى العائلة. وهكذا سلمت المبلغ المتواضع المواطن من بلدي كان متوجها إلى انواكشوط وكلفته بتسلية لأهلي.

في البدايات الأولى للعطلة سعدت بزيارة صو الحسينو وهو شاب من بابابي كنت قد تعرفت عليه في الثانوية كان حينها في شعبة الرياضيات ونجح بتفوق في الباكلوريا وحصل على منحة في تونس. وقد اغتنم فرصة لقضاء عطلة قصيرة في المغرب، خلال رحلته الجوية إلى البلاد فقرر المجيء للسلام على. ذهبنا إلى السوق للتبضع. اراد الحسينو أن يستبدل بعض المال من العملة المحلية فتولدت سريعا علاقة أعمال مع شاب مغربي، ودود جدا وحيوي طلب منا أن ننتظره لدى باب دكان دخل منه، بعد أن أقسم جهدا أيمانه أنه يريد “المساومة من أجل أفضل الأسعار” وضعا نقودنا في جيبه. وبعد عشر دقائق من الانتظار دون فائدة، بدا لنا جليا أن المسألة ليست على حالها. دخلنا الدكان، الذي دخل دون إصدار أية إشارة حيوية، باستثنائه السلام عليكم” ليخرج منه عبر باب جانبي أدركنا أن القضية غامضة وفوق ذلك أدركنا درجة سذاجتنا.

أمضيت العطلة، إذن في الرباط، اكتفيت بعد تلك الأشهر التي أمضيتها محروما من أي مشوار منزلي، بالعودة إلى أجواء حي أمل 4 وجولاته المطبخية ونقاشاته الساخنة حول أخبار البلد. وفي انواكشوط حاول البعثيون بدورهم القيام بانقلابهم موضحين على طريقتهم مدى احتدام الجدل بشأن الهوية الذي يعصف بأمتنا الفتية.

وفي محيطنا الموريتاني على الأرض الرباطية، أحسسنا مع شيء من الغموض، مؤشرات ذلك دون أن نستوعب بدقة أسسا لم يكن تاريخنا الوطني ورهانات الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية التي هزت خلال العقدين المنصرمين مساره الهادئ معروفة لدينا.

في أمل 4 كنا نعيش ضمن مجموعة من الزنوج الموريتانيين وكان من النادر جدا أن يجازف أحد أبناء بلدنا البيظان الالتحاق بنا، كما لو أن الحواجز العرقية التي ظلت متصلة باستمرار في بلادنا، قد أصبحت، في المغرب، غير قابلة للعبور. وخلال هذه العطلة المعلقة نوعا ما، كنت أقيم بشكل عادي، في الحي الجامعي؛ في وتيرة مملة لم ينجح الذهاب، مرة إلى الشاطئ في التأثير فيها.. كنت متعجلا جدا إلى مغادرة الرباط.

….

السنة الجامعية 88 – 1989

مكناس المدينة التاريخية للملوك الأدارسة بين هذه الهضبة وتلك، قلاع ذات عجائب تعود لآلاف السنين يروي بعضها للبعض الآخر حكاياتها، فيتصور المسافر الفطن، نوعا ما، كيف استطاع هنا، الخطاب أن يحافظ على هذا الجمال المغربي الأصيل، لدرجة الشعور بالانتماء لهذه الأمة الاستثنائية. لا غرابة البتة، أن نظر من إحدى البوابات العظيمة التي تتحكم في الولوج إلى تلك الكنوز من التاريخ؛ بعض الخيالة الملثمين، الجاهزين للزحف على الإسباني في الشمال، أو البرتغالي في الغرب أو التركي في الشرق، مع إمعان النظر في مرتفعات الأطلس، في الجنوب؛ حيث تتراءى كما هو الحال على الدوام، تلال صحراوية مطرزة بسواد متغير؛ لا يمكن، فيما يبدو الإحاطة بها أبدا..

كانت المدرسة الوطنية للزراعة بمكناس، تقع على طريق الحاج كادو، وهي قرية قديمة بلا مشاكل، على بعد عشرة كيلومترات من مكناس. لا يمكن القول إن الأمور بدأت بداية أفضل. حافظت المدرسة التي أسسها الفنسيون على إرث هؤلاء من الدعاية فور وصولي تكفل بي زميل أقدم في حيث أمرني بمخلع ملابسي، ثم بارتدائها مقلوبة بالكامل، وقال لي: “ستبقى على هذه الحال طيلة الأسبوع”. ولما بقيت وحيدا في غرفتي بدأت أتخيل ما ينتظرني خلال هذه المحنة كنت بعيدا من إدراك الحقيقة.

سبعة أيام من المشقة يتخللها ألف إزعاج مع قمتين من الحماقة: “ليلة الرعب” و “نهار الحليب” الأولى تشهد المبتدئ يستقظ في عمق الليل، ليوقد النار في المؤسسة؛ وهي ممارسة يقوم بها القدماء بالتأكيد ثم يتم سحبه فوق المقبرة حيث يتوجب عليه أن يحبو على بطنه فوق الأجداث..

أما الثانية فتجري في أحد الاسطبلات حيث يتوجب الزحف على البطن أيضا لكن هذه المرة وسط روث الأبقار وهو الامتحان الأخير، لحسن الحظ الذي تخرج منه المرء أنيقا متألقا لكنه تؤدي إلى حمام غزير قبل الخلاص النهائي، بأناقة ونظافة، وعطر وتألف في أبهى صوره وفي المساء ينظم حفل عند العودة من المدينة، بعد المرور بحمام حليقي الرؤوس.

كان النظام الغذائي في القسم الداخلي هو نفسه في معهد الرباط، وقد سعدت بالالتقاء مجددا مع “جيل” جالو، أحد الذين تقاسموا معي الغرفة في APESA. أما صال فقد ذهب إلى أغادير لدراسة البستنة. كانت عزلة نسبية بالنسبة للمدرسة، على بعد عشرة كيلومترات من المدينة، ما جعل إدارة المؤسسة تقيم رحلة للربط بالباص بينها وبين مكناس…..يتواصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى